بما أن الإيمان أعظم المطالب وأهمها وأعمها، لذلك جعل الله له مواد كبيرة تجلّيه وتقويه، كما أن له أسباباً تضعفه وتوهيه.
والمواد التي تجلّيه وتقوّيه أمران: مجمل ومفصل، أما المجمل فهو: التدبر لآيات الله المتلوّة: من كتاب وسنة، والتأمل لآياته الكونية على اختلاف أنواعها، والحرص على معرفة الحق الذي خُلق له العبد، والعمل بالحق، فجميع الأسباب مرجعها إلى هذا الأصل العظيم.
وأما التفصيل: فالإيمان يحصل ويقوى بأمور كثيرة: منها بل أعظمها:-
1- معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبّد لله فيها, قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون) (1) فالتأمل في أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى من منهج الوسطيّة, والإلحاد في أسمائه وصفاته خروج عن منهج الوسطيّة الذي رسمه القرآن (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًا ما تدعو فله الأسماء الحسنى ...) (2)والذين يصفون الله بغير ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يلحدون في آيات الله، وهذا انحراف عن الصراط المستقيم. (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفَوْن علينا...)(3) ولذلك الحرص على معرفة أسماء الله الحسنى وفهم معانيها تزيد الإيمان.
فقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله تسعة وتسعين اسماً – مائة إلا واحداً – من أحصاها، دخل الجنة) (4) أي من حفظها، وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبّد الله بها دخل الجنة. والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون.
فعُلم: أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، ومعرفة الأسماء الحسنى هي أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليها.
ومعرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبيّة، وتوحيد الألوهيّة، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوي يقينه، فينبغي للمؤمن: أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الأسماء والصفات، وتكون معرفته سالمة من داء التعطيل، ومن داء التمثيل: اللذيْن ابتلي بهما كثير من أهل البدع المخالفة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل تكون المعرفة متلقاة من الكتاب والسنة، مما روي عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهذه المعرفة النافعة التي لا يزال صاحبها في زيادة في إيمانه وقوة يقينه، وطمأنينة في أحواله.
ويعجبني في هذا المقام كلام نفيس للعلامة ابن القيم رحمه الله- حيث يقول: ومشهد الأسماء والصفات من أجل المشاهد، والمطلع على هذا المشهد يعرف أن الوجود متعلّق خلقاً وأمراً بالأسماء الحسنى والصفات العلا، ومرتبط بها، وأن كل مما في العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها فاسمه الحميد، المجيد، يمنع ترك الإنسان سُدًى مهملاً معطلاً لا يُؤمر ولا يُنهى، ولا يُثاب ولا يُعاقب، وكذلك اسمه (الحكيم) يأبى ذلك، وهكذا فكل اسم من أسمائه له موجبات، وله صفات لا ينبغي تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها، والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه، فهو عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، ويحب التوبة، ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال، وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله، ويحلم عنه، ويتوب عليه، ويسامحه بموجب أسمائه وصفاته، وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك. وما يحمد به نفسه ويحمد به أهل سماواته وأهل أرضه، وما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده، وهو سبحانه الحميد المجيد، وحمده ومجده يقتضيان ِآثارهما. ومن آثارهما مغفرة الزلات، وإقالة العثرات، والعفو عن السيئات، والمسامحة عن الجنايات، مع كمال القدرة على استيفاء الحق، والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتهما، فحلمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال عيسى عليه السلام في القرآن (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (5).
أي مغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزاً، ويسامح جهلاً بقدر الحق، بل أنت عليم بحقك، قادر على استيفائه، حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر يتبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد، وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال، وغايتها أيضا مقتضى حمده ومجده، كما هو مقتضى ربوبيّته وألوهيته. فلله في كل ما قضاه وقدّره الحكمة البالغة، والآيات الباهرة، والله سبحانه دعا عباده إلى معرفته بأسمائه وصفاته، وأمرهم بشكره ومحبته وذكره وتعبده بأسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ لأن كل اسم له تعبّد مختص به، علماً ومعرفة وحالاً، وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا يحجبه اسم عن اسم آخر، كما لا يحجبه التعبد باسمه (القدير) عن التعبد باسمه (الحليم الرحيم)، أو يحجبه عبودية اسمه (المعطي) عن عبودية اسمه (المانع) أو عبودية اسمه(الرحيم، العفو، والغفور) عن اسم (المنتقم)، أو التعبد بأسماء (البر والإحسان واللطف عن أسماء العدل والجبروت، والعظمة والكبرياء، وهذه طريقة الكمال من السائرين إلى الله، وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال تعالى:(ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ... ) (6)والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد (7)، وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها؛ فالله تعالى يحب موجب أسمائه وصفاته، فهو (عليم) يحب كل عليم، وهو (جواد) يحب كل جواد،(وتر) يحب الوتر (جميل يحب الجمال) عفو يحب العفو وأهله، (حيي) يحب الحياء وأهله، (برٌ) يحب الأبرار، (شكور) يحب الشاكرين، (صبور) يحب الصابرين، (حليم) يحب أهل الحلم فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح, خلق من يغفر لهم ويتوب عليهم ويعفو عنهم، وقدّر عليهم ما يقتضي وقوع المكروه المبغوض له، ليترتب عليه المحبوب له المرضيّ له.
وظهور أسماء الله وصفاته في هذه الحياة وفي النفس البشرية، وفي الكون كله واضح، لا يحتاج إلى دليل، إلا أن الاهتداء إلى تلك الآثار أو الانتباه لها يتوقف على توفيق الله، بل إن التوفيق نفسه من آثار رحمته التي وسعت كل شيء، فلو فكر الإنسان في هذا الكون الفسيح، وفي نفسه لرجع من هذه الجولة الفكرية بعجائب، واستفاد منها فوائد ماكان يحلم بها، ولو تأمّلنا هذه الآية الكريمة لرأينا أموراً نعجز عن التعبير عنها, قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم)، ومما يدلل ويؤكد أهمية هذا التوحيد هو ما تثمره أسماء الله وصفاته في قلب المؤمن من زيادة الإيمان ورسوخ في اليقين، وما تجلبه له من النور والبصيرة التي تحصّنه من الشبهات المضللة، والشهوات المحرمة.
فهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة فلكل اسم من أسماء الله له تأثير معين في القلب والسلوك، فإذا أدرك القلب معنى الاسم وما يتضمنه واستشعر ذلك، تجاوب مع هذه المعاني وانعكست هذه المعرفة على تفكيره وسلوكه.
ولكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها فالأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية، وهذا مطّرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح فمثلاً: علم العبد بتفرّد الرب تعالى بالضرّ والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يُرضي الله، وأن يجعل له تعلّق هذه الأعضاء بما يحبّه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه (8).
وكذلك معرفته بجلال الله وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي موجباته.
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلا، وجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت العبودية إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها (9).
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب: هي أكمل الأحوال، وأجل وصف يتصف بة القلب وينصبغ به، ولا يزال العبد يمرّن نفسه عليها حتى تنجذب نفسه وروحه بدواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تكمل الأعمال البدنية فنسأل الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه، فإنه أكرم الاكرمين، وأجود الاجودين (10).
1- سورة الأعراف ، آية 180
2- سورة الإسراء ، آية 11
3- سورة فصلت ، آية 40
4- البخاري مع الفتح ، كتاب الدعوات ، باب لله مائه اسم (ج11/ 218) رقم الحديث 641
5- سورة المائدة آية 118
6- سورة الأعراف آية 180
7- انظر: مدارج السالكين ( ج 2 / 419 )
8- انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ( ج2/ 90 )
9- انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيم ( ج2 /90 )
10- انظر: القواعد الحسنات للسعدي ص (130 )
المصدر : الاسلام اليوم