الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

نماذج علمائية ملهمة (29)

أحمد بن حنبل " من أئمة وأعلام أهل السنة"

الكاتب: د. علي محمد الصلابي

(الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

هو أحد الأئمة الأعلام، عظيم الشأن والعلم، ثِقةٌ حافِظٌ حُجَّةٌ، وهو رأسُ الطَّبقة العاشرة، سيد المسلمين في عصره، والمجمع على جلالته وإمامته وورعه، وزهده ووفور علمه، وإليه تُنسَبُ الحنابلة، أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه ثبت على الفتنة، وبذل نفسه في الدفاع عن الدين، فعصمه الله وجعله علماً يقتدى به، إنه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه.

اسمه ونسبه وكنيته:

جاء في السير للذهبي في نسب طويل له، ذكر منه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»: أنه أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد، أبو عبد الله الذهلي الشيباني المرْوَزي ثم البغدادي، ولد كما أخبر ابنه صالح عنه في ربيع الأول سنة مائة وأربعة وستين للهجرة، وتوفي والده محمد شابًا فنشأ يتيمًا وطلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، أي سنة مائة وتسعة وسبعين، وهي السنة التي توفي فيها الإمام مالك رضي الله عنه صاحب المذهب (سير أعلام النبلاء، الذهبي، م11، ص177).

 

 

نشأته ورحلته في طلب العلم:

بدت النجابة والذكاء على الإمام أحمد منذ صغره فعلمه أهله مبادئ القراءة والكتابة حتى حفظ القرآن، ورغب في زيادة العلم فرحلوا لبغداد حيث العلم والعلماء، فكان يرجو حينما قدم بغداد أن يدرك العالم الشهير عبد الله بن المبارك، إلا أنه كان قد توفي حين قدم الإمام، وفي بغداد حيث الميدان الفسيح للعلم والعلماء آنذاك، أتيحت للإمام الفرصة للارتواء من معين العلم فأخذ عن أساتذة مشهورين بالعلم والتحقيق، ولما تمكن من العلم رحل في طلب المزيد منه إلى البصرة والكوفة، ثم إلى مكة والمدينة المنورة، ثم إلى اليمن والشام، فأخذ عن علماء ذلك العصر، ومنهم يحيى بن سعيد القطان ووكيع بن الجراح، وسفيان بن عيينة والإمام الشافعي، وحينما تضلع الإمام بالعلم وتأثر بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل على العبادة إقبالاً شديداً حتى أنه لا يُرى إلا قارئاً أو محدثاً أو معلماً أو مصلياً، وكان لا يغفل لحظة عن ذكر الله تعالى واستغفاره وتلاوة القرآن، وكان يصلي كما روى ذلك ابنه صالح كل ليلة ويوم ثلاثمائة ركعة، وبعد ضربه وضعفه اقتصر على مائة وخمسين ركعة، وكان يختم القرآن حفظاً كل أسبوع (إمام الصابرين، المسند، ص10).

 وإن تعمقنا في حياة الإمام أحمد ونشأته ومظهره، وإن عرفنا الخطوط التي سارت عليها تربيته الأولى في صغره، وتربيته هو لنفسه بعد رشده وكبره، لوجدنا أنه قد أخذ نفسه بالشدة التي لا تعرف الهوادة،  وراض جسمه على التعب الذي لا يعرف الراحة، وطبع هواه بطابع الإيمان الذي لا يألف النفاق ولا الغموض، والتزم في محنته ومنحته التقشف الذي لا يعرف الترف، وبالورع الذي يتعفف عن كثير من الطيبات، وكان دليله في ذلك كله الأدب المحمدي العظيم: (ثلاث من كنّ فيه فقد جمع خير الدنيا والآخرة: الكفاف والقناعة والورع)، ولقد تطبع الإمام أحمد على هذا بادئ الأمر حتى أصبح له طبعاً في آخر حياته، وأكبر الظن أن الذي دفع الإمام أحمد إلى هذا التقتير والتضييق ليس هو الحرص على الزهد فقط، بل يضاف إلى ذلك انشغاله بالعلم والفقه والحديث والعبادة، وذلك لانشغاله الذي استولى على مشاعره وأحاسيسه جميعاً فجعله لا يفكر في شيء يتصل بمأكل أو مشرب (أحمد بين محنة الدين والدنيا، الدومي، ص16).

علمه:

كان رحمه الله شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان ينتقد إعراض الطلبة عن القرآن وتفسيره ويقول: "قد ترك الناس فهم القرآن"، وقد جمع كتاباً في الناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر، وجمع التفسير الكبير وهو شاملٌ لأقوال الصحابة والتابعين، وحفظ من السنة على ما قيل: ألف ألف حديث (تذكرة الحفاظ، الذهبي م2، ص15).

وقد صنف كتابه (المسند) وفيه نحو ثلاثين ألف حديث، وكان عالماً بعلل الآثار والأحاديث مميزاً صحيحها من سقيمها، وإليه يرجع الناس في ذلك، وكان شديد الإقبال على المصحف وتلاوته وتدبره، فكان يختم من جمعة إلى جمعة، وكان رحمه الله فقيهاً في القرآن والسنة عالماً بمعانيها، وكان أعلم أقرانه بذلك، كما شهد له بذلك الأئمة، يقول إسحاق بن راهويه: ( كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر، فأقول: ما فقهه؟ ما تفسيره؟ فيسكتون إلا أحمد)، ويقول عنه أبو ثور: ( كان أحمد إذا سئل عن مسألة، كأن علم الدنيا لوحٌ بين عينيه)، ولا يكاد يفوته من آثار الصحابة إلا القليل، فضلاً عن اطّلاعه على كلام الفقهاء من الأمصار كمالك والشافعي وأبي حنيفة (مع الأئمة، العودة، ص 159).

وقد أُعطى موهبة الحفظ، فيحفظ الأحاديث فور سماعها حتى إذا كان الناس يتحدثون حفظ ما ينفع من قولهم، وقد بلغ من علمه أنه سُئل عن ستين ألف مسألة فأجاب عنها بأخبرنا وحدثنا فيما نقله عنه عبد الوهاب الوراق، وانتهى علمه إلى أن طبق الآفاق فرحل إليه طلاب العلم من كل حدبٍ وصوب حتى احتل المنزلة العليا وسُمّي (إمام دار السلام)، وفي الوقت الذي يضاعف جهده لتحصيل العلم لا يكتم ما علم ولا يسكت عليه بل يعلمه للناس، فقد جلس لتعليم العلم وتدريسه وهو حدثٌ في أول العقد الثالث حتى قصده الناس من كل فج عميق، وتتلمذ عليه مشايخه وكبار العلماء، وكان حفظه نادراً حتى أنه لا يباريه أحد، وقد صرف كل لحظةٍ من عمره في تحصيل علم أو تعليمه للناس، بالقول والعمل والسلوك، وقد خلّف رضي الله عنه تلامذة جهابذة محققين، خدموا السنة والإسلام والحديث، كالإمامين البخاري ومسلم، ومؤلفاته الذي ارتبطت باسمه كــ(المسند)، وهو كتابٌ عظيم القدر كبير الفائدة، وقد التزم بأن لا يجعل فيه سوى الحديث الصحيح في المتن والإسناد (إمام الصابرين، سابق، ص 13ـ 21 بتصرف).

فلم يكن في عصر الإمام أحمد ولا بعد عصره أحدٌ حفظ من الحديث ما حفظ وجمع ما جمع، وأتقن من هذا الفن ما أتقن، فقد بذل للحديث والسنة النبوية راحته وجهده، وأنفق شبابه وشيخوخته، فلم يكل ولم يمل حتى بلغ الذروة من علمه وحفظه وفهمه، حتى صار فقيه المحدثين ومحدث الفقهاء وإمام السنة، وما كان قصده إلا التحري عما يريده الله ورسوله، فليس لأحد من خلق الله أن يشرّع من دون الله ورسوله، وفي هذا المعنى قال العباس بن الوليد بن مزيد: " قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحداً يحفظ على هذه الأمة أمر دينها؟ قال لا أعلم إلا شاباً في ناحية المشرق ـ يعني أحمد" ـ

ومن شدة عنايته بحفظ السنة فقد حرص على ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث خشية أن يطرح ما يجوز أن يكون صحيحاً، وكان إذا قال حديثاً نبوياًّ لا يقول إلا من كتاب حرصاً على جودة النقل، وقال ابنه عبدالله: "ما رأيت أبي حدّث من حفظه من غير كتاب إلا بأقل من مائة حديث"، ولقد كان يحث تلاميذه وأصحابه على ذلك، وينهاهم أن يحدثوا من غير كتاب خشيةَ أن يضلوا، فالإمام أحمد دقيقُ النظرِ عظيمُ الحيطةِ كبيرُ الورع، غزير المادة من علمي الكتاب والسنة، فكان أعظم ما يخشاه أن يقرر حكماً ليس هو حكم الله ورسوله، ولدقة فقه الإمام وورعه واحتياطه لدينه جعله كثير من أئمة الحديث، وفيهم الفقهاء، حجةً فقلدوه واقتدوا به ( أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، الدقر، ص37ـ 56 بتصرف) وبذلك كله كان الإمام أحمد مثلاً يحتذى، وقدوةً يتأسى بها في عالم العلماء والخاصة قبل أن يكون في عالم الدهماء والعامة.

ثناء الأئمة الأعلام على الإمام:

قال ابن كثير: "أطبقت الأمة على تعظيمه وتوقيره، وإجلاله واحترامه في علمه وزهده، وورعه وسَعةِ فنونه، وصبره على المحنة، وقيامه لله بالسنة، فهو خير الأمة، وإمام الأئمة في زمانه، والمُبرَّز على سائر أهل عصره وأقرانه (طبقات الشافعيين، ابن كثير، ص 106).  

قال الشافعي: "أحمدُ إمام في ثماني خصال: إمامٌ في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة (طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، 1/ 5).

قال ابن أبي يعلى: "لا يختلف العلماء الأوائل والأواخر أنه في السنّة الإمام الفاخر والبحر الزاخر، أُوذي فِي اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فصبر، ولكتابه نصر، ولسنة رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انتصر، أفصح اللَّه فيها لسانه، وأوضح بيانه، وأرجح ميزانه، لا رَهَبَ ما حُذِّر، ولا جبن حين أُنذر، أبان حقًّا وقال صدقًا، وزان نطقًا وسبقًا، ظهر على العلماء وقهر العظماء، ففي الصادقين ما أوجهه، وبالسابقين ما أشبهه، وعَنِ الدنيا وأسبابها ما كان أنزهه، جزاه اللَّه خيرًا عَنِ الإسلام والمسلمين (طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى: 1/ 12 – 13).

قال ابن القيم: "إمام أهل السنة على الإطلاق، الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعه إلى يوم القيامة (أعلام الموقِّعين، ابن القيم: 1/ 23).

قال ابن تيمية: "الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزَيْغَ الزائغين، وشكَّ الشاكِّين (بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية، 3/ 312).

قال إسحاق بن راهويه: "لولا أحمد بن حنبل وبذلُ نفسه لِما بذلها، لذهب الإسلام" ( تاريخ دمشق"، لابن عساكر: 5/ 278).

قال ابن المديني: "أعز الله الدين بالصِّدِّيق يوم الرِّدة، وبأحمدَ يوم المحنة (سير أعلام النبلاء، للذهبي: 11/ 196).

وفاته (رحمه الله):

ظل الإمام أحمد يشكو آثار التعذيب الذي ناله في المحنة، ومات رحمه الله سنة (241هـ)، وكان عمره سبعًا وسبعين سنة، وكانت وفاته ببغداد حيث وُلد ونشأ (مع الأئمة، العودة، ص182).

 

المصادر والمراجع:

  • إمام الصابرين أحمد بن حنبل، عبد العزيز المسند، الطبعة الثانية، المكتبة الصغيرة، 1982م.
  • أحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا، أحمد عبد الجواد الدومي، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة الأولى، مصر، 1380هـ.
  • تذكرة الحفاظ، الذهبي
  • سير أعلام النبلاء، الذهبي
  • مع الأئمة، سلمان العودة، مؤسسة الإسلام اليوم للنشر، الرياض، 1433ه.
  • أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، عبد الغني الدقر، دار القلم، الطبعة الرابعة، دمشق، 1999م.
  • طبقات الشافعيين"، ابن كثير
  • طبقات الحنابلة"، لابن أبي يعلى.
  • أعلام الموقِّعين"، ابن القيم
  • بيان تلبيس الجهمية، ابن تيمية
  • تاريخ دمشق، ابن عساكر.
  • البداية والنهاية، ابن كثير.
  • مناقب الإمام أحمد، ابن الجوزي.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022