السبت

1446-12-25

|

2025-6-21

إدارة الشؤون الداخليَّة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

أراد الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أن ينفِّذَ السياسة التي رسمها لدولته، واتَّخذ من الصَّحابة الكرام أعواناً يساعدونه على ذلك، فجعل أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمَّة (وزير الماليَّة) فأسند إليه شؤون بيت المال، وتولَّى عمر بن الخطاب القضاء (وزارة العدل)، وباشر الصِّدِّيق القضاء بنفسه أيضاً، وتولَّى زيد بن ثابت الكتابة (وزير البريد والمواصلات) وأحياناً يكتب له مَنْ يكون حاضراً من الصَّحابة كعليِّ بن أبي طالب، أو عثمان بن عفَّان ـ رضي الله عنهم ـ وأطلق المسلمون على الصِّدِّيق لقب خليفة رسول الله (أبو خليل، ص 218).

ورأى الصَّحابة ضرورة تفريغ الصدِّيق للخلافة، فقد كان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ رجلاً تاجراً يغدو كلَّ يومٍ إلى السوق، فيبيع، ويبتاع، فلمّا استُخلف أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثوابٌ يتَّجر بها، فلقيه عمر، وأبو عبيدة، فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله ؟! قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد ولِّيت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ فقالا:

انطلق معنا حتى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما، ففرضوا له كل يومٍ شطر شاةٍ (السيوطي، ص 92)، وجاء في « الرياض النَّضرة »: أنَّ رزقه الذي فرضوه له خمسون ومئتا دينارٍ في السَّنة، وشاةٌ يؤخذ من بطنها، ورأسها، وأكارِعها . فلم يكن يكفيه ذلك، ولا عياله، قالوا: وقد كان قد ألقى كلَّ دينارٍ ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع، فتصافق (بايع)، فجاء عمر ـ رضي الله عنه ـ فإذا هو بنسوةٍ جلوس، فقال: ما شأنكنَّ؟ قلن: نريد خليفة رسول الله (ﷺ) يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السُّوق، فأخذه بيده، فقال: تعال ها هنا. فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني، ولا عيالي . قال: فإنَّا نزيدك . قال أبو بكر: ثلاثمئة دينار والشاة كلّها . قال عمر: أمّا هذا فلا، فجاء عليٌّ رضي الله عنه، وهما على حالهما تلك، قال: أكملها له، قال: ترى ذلك ؟ . قال: نعم، قال: قد فعلنا (المحبّ الطبري، 291).

وانطلق أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس، فقال: أيُّها الناس إنَّ رزقي كان خمسين ومئتي دينارٍ، وشاةً يؤخذ من بطنها، ورأسها، وأكارِعها، وإنَّ عمر وعليّاً كمَّلا لي ثلاثمئة دينارٍ والشاة، أرضيتم ؟ قال المهاجرون: اللهمَّ نعم قد رضينا.

وهكذا وقف الصَّحابة في فهمهم الرَّاقي لولاية الدِّين، وأمانة الحكم، يفرضون لإمامهم رزقاً يغتني به عن التجارة، بعد أن صار عاملاً للأمَّة تملك منه الوقت، والجهد، والفكر.. ومن ثمَّ يقرِّرون معنىً في الإسلام بديعاً يفصل الذِّمَّة المالية للأمَّة عن ذمَّةِ الحاكم.

هذا المعنى الذي لم يعرفه الغرب إلا في عهوده القريبة؛ إذ ظلَّت راية: ما لقيصر لقيصر مشرعةً خفاقةً يقاتل الناس دونها أزماناً طويلةً، إنَّ أصدق تعبيرٍ نقف به على دخول الذِّمَّة الماليَّة للدَّولة بأسرها في ذمة الحاكم لهو مقالة لويس الخامس عشر: أنا الدَّولة، والدَّولة أنا. لقد كان لويس تاجر غلالٍ معروفاً يتَّجر في قوت أمَّته وهي تتضوَّر جوعاً، ثمَّ لا يرى أحدٌ في ذلك شيئاً من العار.. أليس هو الأصل، والأمَّة فرعٌ عنه (المحبّ الطبري، ص 291)؟!

أين البشريَّة اليوم من أولئك الصَّحابة ـ رضوان الله عليهم ـ؟ فإنَّ الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاؤون، ويتصرَّفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقاتٌ مستورةٌ لا حصر لها، وفوق هذا فقد تكدَّست لهم الأموال في المصارف خارج البلاد، حتى غدت دولٌ أجنبيةٌ تعيش على هذه الأموال لكثرتها، وأكثرها يعود إلى الحكَّام، وأمراء الشُّعوب المستضعفة، مع أنَّه قد ظهر: أنَّ هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنَّها لا تكفي شيئاً، ولا تغني صاحبها شيئاً، فإنَّ شاه إيران مع ضخامة ما يملك لم يجد أرضاً تقبله ليأوي إليها، هذا في الدُّنيا، وأمَّا في الآخرة فالأمر أشدُّ، والحساب عظيم (حمدي، ص 35).

فعلى حكام المسلمين أن يقتدوا بهذا الصَّحابيِّ الجليل الذي أدار دولة الإسلام بعد وفاة الرَّسول (ﷺ)، فما أجمل قوله ـ رضي الله عنه ـ: لقد علم قومي أنَّ حرفتي لم تكن تعجز عن مؤونة أهلي، وشُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل ال أبي بكرٍ من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه (شاكر، ص 11).

إنَّ الصِّدِّيق يؤكِّد معاني بديعةً، فولاية الدِّين ليست في حدِّ ذاتها مغنماً، أمّا ما يفرض لها من رزقٍ؛ فَلِمَا تفضي إليه من اشتغال عامل الأمَّة عن أمرِ نفسه (البخاريُّ، كتاب البيوع، رقم: 2070).

لقد سطَّر الصِّدِّيق، والصَّحابة الكرام صفحاتٍ رائعةً في جبين الزَّمن، حتى إنَّ البشريَّة تسعى في سلم التَّطوُّر، وتسعى، ثمَّ إذا هي قابعةٌ عند أقدامهم (حمدي، ص 35).

سار الصدِّيق في بناء دولة الإسلام بجدٍّ، ونشاطٍ، واهتمَّ بالبناء الداخليِّ، ولم يترك أيَّ ثغرةٍ يمكن أن تؤثر في ذلك البناء الشَّامخ؛ الذي تركه رسول الله (ﷺ)، فاهتمَّ بالرَّعيَّة، وله مواقف مشرِّفةٌ في هذا الباب، وأعطى للقضاء اهتماماً خاصّاً، وتابع أمر الولاة، وسار على المنهج النبويِّ الكريم في كلِّ خطواته، وإليك شيءٌ من التفصيل عن تلك السياسة الرَّشيدة.

 

المراجع:

  1. السيوطي، جلال الدين، تاريخ الخلفاء، عُني بتحقيقه إِبراهيم صالح، دار صادر، بيروت، الطَّبعة الأولى 1417هـ 1997م.
  2. أبو خليل، شوقي، (1996)، في التَّاريخ الإِسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت، الطَّبعة الثانية 1417هـ 1996م.
  3. المحب الطبري، أبو جعفر أحمد، الرِّياض النَّضرة في مناقب العشرة، المتوفى 694هـ، المكتبة القيِّمة، القاهرة.
  4. حمدي، مجدي، أبو بكرٍ رجل الدَّولة، دار طيبة الرِّياض، الطبعة الأولى 1415هـ.
  5. شاكر، محمود، (1990)، التَّاريخ الإِسلاميُّ، الخلفاء الرَّاشدون، المكتب الإِسلاميُّ، الطَّبعة الخامسة 1411هـ 1990م.

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022