الفقه العمري في الاستخلاف
بقلم: د. علي محمد الصلابي
استمر اهتمام الفاروق عمر (رضي الله عنه) بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، على الرغم مما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره (الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ، للعاني ص 161)، وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلاً ملموساً ومعلماً واضحاً على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية، ولقد مضى قبله الرسول ﷺ ولم يستخلف بعده أحداً بنص صريح، ومضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طُلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر ملياً، وقرر أن يسلك مسلكاً آخر يتناسب مع المقام، فرسول الله ﷺ ترك الناس وكلهم مُقِرٌّ بأفضلية أبي بكر، وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادراً، وخصوصاً أن النبي ﷺ وجه الأمة قولاً وفعلاً إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده، والصديق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسؤولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة، ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر.
وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد التي اتبعها الفاروق رضي الله عنه، فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر الاختيار في ستة من صحابة رسول الله ﷺ كلهم يصلحون لتولي الأمر، ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة، وعدد الحكم في المجلس، والمرجح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد. (أولويات الفاروق، د. غالب القرشي ص 122 – 124)
وهذا بيان ما أجمل في الفقرات السابقة:
أ ـ العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:
أما العدد فهو ستة، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله (رضي الله عنهم جميعاً)، وترك سعيد بن زيد وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلته "بني عدي"، وكان عمر (رضي الله عنه) حريصاً على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة. (الخلفاء الراشدون، للخالدي ص 98)
ب ـ طريقة اختيار الخليفة:
أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيراً فقط، وليس له من الأمر شيء، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي، وقال له: أنت أمير الصلاة في هذه الأيام الثلاثة. حتى لا يولي إمامة الصلاة أحداً من الستة، فيصبح هذا ترشيحاً من عمر له بالخلافة، وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يراقبا سير الانتخابات. (التداول على السلطة، د. علي الصلابي، ص145)
ج ـ مدة الانتخابات أو المشاورة:
حددها الفاروق رضي الله عنه بثلاثة أيام، وهي فترة كافية، وإن زادوا عليها فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير (الطبقات لابن سعد (3 / 364).
د ـ عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:
أخرج ابن سعد بإسنادٍ رجاله ثقات: أن عمر (رضي الله عنه) قال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل، فمن خالفهم فاضربوا رأسه. [مسلم: (3/1480)]
فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط، ويشق عصا المسلمين، ويفرق بينهم بقوله ﷺ: «من أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه». [مسلم (3/1480)]
وما جاء في كتب التاريخ من أن عمر رضي الله عنه أمرهم بالاجتماع والتشاور، وحدد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل، وأبى أحدهم، فليضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة ورضوا رجلاً منهم، وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما، فهذه من الروايات التي لا تصح سنداً، فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف ـ الإمامي الشيعي ـ مخالفاً فيها النصوص الصحيحة، وما عرف من سير الصحابة (رضي الله عنهم)، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم ـ أي: أهل الشورى ـ فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشرخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما. (تاريخ الطبري (5 / 226). فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر رضي الله عنه هذا وهو يعلم أنهم من الصفوة من أصحاب رسول الله ﷺ، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم، وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: "أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم"، وهذه الرواية منقطعة، وفي إسنادها «سماك بن حرب» وهو ضعيف. (مرويات أبي مخنف، يحيى اليحيى، ص 176)
ه ـ الحكم في حال الاختلاف:
لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس، وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم، فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له، فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بأنه مسدد رشيد، فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف مسددٌ رشيد، له من الله حافظ فاسمعوا له.
ز ـ جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل:
ومن فوائد قصة الشورى: جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأن عمر جعل الشورى في ستة أنفس مع علمه أن بعضهم كان أفضل من بعض، ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد، حيث كان لا يراعي الفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فاستخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة. (مرويات أبي مخنف، يحيى اليحيى، ص 176)
ح ـ جمع عمر بين التعيين وعدمه:
جمع عمر بين التعيين كما فعل أبو بكر ـ أي: تعيين المرشح ـ وبين عدم التعيين كما فعل الرسول ﷺ، فعين ستة، وطلب منهم التشاور في الأمر.
ط ـ الشورى ليست بين الستة فقط:
عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة فيمن يتولى الخلافة، حيث جعل لهم أمد ثلاثة أيام، فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة، وكل من كان ساكناً في بلد غيرها كان تبعاً لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة (23هـ) مجمع الصحابة، لأن كبار الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة. (عمر بن الخطاب، للصلابي ص 61)
ي ـ أهل الشورى أعلى هيئة سياسية:
إن عمر (رضي الله عنه) أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحداً من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحداً من الصحابة الآخرين لم يثر أي اعتراض عليه، ذلك مما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم أن اقتراحاً آخر قد صدر عن أحد من الناس في ذلك العصر، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال الساعات الأخيرة من حياته أو بعد وفاته، وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين، وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرَّها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى؛ لأن العبرة من حيث النتيجة للبيعة العامة التي تجري في المسجد الجامع، وعلى هذا لا يجب أن يرد هذا السؤال على بعض الأذهان وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ وما هو مستند عمر في هذا التدبير؟
ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أفرزت هذا التدبير ورضيت به، ولم يسمع صوت اعتراض عليه، حتى نتأكد من أن الإجماع ـ وهو من مصادر التشريع ـ قد انعقد على صحته ونفاذه.
ولا ننسى: أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكد على أن هذا المبدأ ـ أهل الشورى أعلى هيئة سياسية ـ قد أقرَّه نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما أن الهيئة التي سمَّاها عمر تمتعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله، وبلغها الرسول ﷺ، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى والأمانة.
هكذا ختم عمر رضي الله عنه حياته، ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاماً صالحاً للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك في أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله ﷺ وأبو بكر رضي الله عنه، ولم يكن عمر مبتدعاً بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة، وحصر عدد معين جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول ﷺ ولا الصديق (رضي الله عنه)، بل أول من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل، فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت. (نظام الحكم في الشريعة، ظافر القاسمي، 1 / 227، 229)
المراجع:
• التداول على السلطة التنفيذية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار ابن كثير – دمشق – بيروت.
• سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار المعرفة – بيروت، ط10، 1433هـ - 2011م.
• أوَّليَّات الفاروق د. غالب عبد الكافي القرشي، المكتب الإِسلامي بيروت، مكتبة الحرمين الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1403 هـ 1983 م.
• الخلفاء الراشدون بين الاستخلاف والاستشهاد، صلاح عبد الفتاح الخالدي، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، 2010م.
• الخليفة الفاروق عمر بن الخطَّاب، عبد الرَّحمن عبد الكريم العاني، د. حسن فاضل زعين، دار الشُّؤون الثَّقافيَّة العامَّة، بغداد، طبعة 1989 م.
• الطَّبقات الكبرى، لابن سعد، دار صادر بيروت.
• تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر الطَّبري، دار الفكر بيروت، الطَّبعة الأولى 1407 هـ 1987م.
• مرويَّات أبي مخنف في تاريخ الطَّبري، عصر الخلافة الرَّاشدة، د. يحيى إِبراهيم اليحيى، دار العاصمة بالرِّياض، الطَّبعة الأولى 1410هـ.
• نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلامي، ظافر القاسمي، دار النَّفائس، بيروت، الطَّبعة الثَّالثة 1407 هـ 1987 م.