الجمعة

1447-01-02

|

2025-6-27

موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من ميراث النبي صلى الله عليه وسلم

د. علي محمد الصلابي

 

قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ فاطمة، والعبّاس ـ رضي الله عنهما ـ: أتيا أبا بكرٍ يلتمسان ميراثهما من رسول الله (ﷺ) وهما حينئذٍ يطلبان أرضيهما من فدك، وسهمهما من خيبر، فقال لهما أبو بكرٍ: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: « لا نورث، ما تركنا صدقةٌ، إنَّما يأكل ال محمَّدٍ من هذا المال » (البخاري، رقم: 6726). وفي روايةٍ: قال أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: ... لست تاركاً شيئاً كان رسول الله (ﷺ) يعمل به إلا عملتُ به، فإنِّي أخشى إن تركتُ شيئاً من أمره أن أزيغ (مسلم، رقم: 1759).

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: إنَّ أزواج النبيِّ (ﷺ)، حين توفِّيَ رسول الله (ﷺ)، أردن أن يبعثن عثمان بن عفّان ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي بكرٍ، يسألنه ميراثهنَّ، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله (ﷺ): « لا نورث ما تركنا صدقةٌ » (البخاري، رقم: 6730). وعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال رسول الله (ﷺ): « لا يقتسم ورثتي ديناراً، ما تركتُ بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقةٌ » (مسلم، رقم: 1758).

وهذا ما فعله أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ مع فاطمة ـ رضي الله عنها ـ امتثالاً لقوله (ﷺ)، لذلك قال الصِّدِّيق: لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملتُ به (البخاري، رقم: 6729)()، وقال: والله لا أدع أمراً رأيتُ رسول الله (ﷺ) يصنعه فيه إلا صنعته (مسلم، رقم: 1758).

وقد تركت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليلٌ على قبولها الحقَّ وإذعانها لقوله (ﷺ)، قال ابن قتيبة: وأمّا منازعة فاطمة أبا بكرٍ ـ رضي الله عنهما ـ في ميراث النبيِّ (ﷺ) فليس بمنكرٍ؛ لأنَّها لم تعلم ما قاله رسول الله (ﷺ)، وظنَّت أنَّها ترثه، كما يرث الأولاد اباءهم، فلمّا أخبرها بقوله، كفَّت (الدينوري، ص 189).

وقال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكرٍ بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضيَّةٍ، وأنَّها لمّا بلغها الحديث وبيَّن لها التأويل؛ تركت رأيها، ثمَّ لم يكن منها، ولا من ذرِّيتها بعد ذلك طلب ميراثٍ، ثمَّ ولّي عليٌّ الخلافة فلم يعدل بها عمّا فعله أبو بكرٍ، وعمر رضي الله عنهم (شرح صحيح مسلمٍ للنَّووي، 12/318).

وقال حمّاد بن إسحاق، والذي جاءت به الرِّوايات الصَّحيحة فيما طلبه العبّاس، وفاطمة، وعليٌّ لها، وأزواج النبيِّ (ﷺ) من أبي بكرٍ ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ إنَّما هو الميراث، حتّى أخبرهم أبو بكرٍ، والأكابر من أصحاب رسول الله (ﷺ): أنَّه قال: «لا نورث ما تركنا صدقةٌ». فقبلوا بذلك، وعلموا: أنَّه الحقُّ، ولو لم يقل رسول الله (ﷺ) ذلك كان لأبي بكرٍ، وعمر فيه الحظُّ الوافر بميراث عائشة، وحفصة ـ رضي الله عنهما ـ فاثروا أمر الله، وأمر رسوله، ومنعوا عائشة، وحفصة، ومن سواهما ذلك، ولو كان رسول الله يورث، لكان لأبي بكرٍ وعمر أعظم الفخر به أن تكون ابنتاهما وارثتي محمَّدٍ (ﷺ) (ابن كثير، 5/252-253).

وأمّا ما ذكره من الرُّواة في كون فاطمة ـ رضي الله عنها ـ غضبت، وهجرت الصِّدِّيق حتى ماتت، فبعيد جدّاً لعدَّة أدلةٍ منها:

أـ ما رواه البيهقيُّ من طريق الشعبيِّ: أنَّ أبا بكرٍ عاد فاطمة، فقال لها عليٌّ: هذا أبو بكرٍ يستأذن عليك، فقالت: تحبُّ أن آذن له ؟ قال: نعم، فأذنت له، فدخل عليها فترداها؛ حتّى رضيت (شعوط، ص 109). وبهذا يزول الإشكال الوارد في تمادي فاطمة رضي الله عنها لهجر أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كيف وهو القائل: والله لقرابة رسول الله (ﷺ)، أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي (البخاري، رقم: 4036)، وما فعل إلا امتثالاً، واتباعاً لأمر رسول الله (ﷺ) (السحيمي، ص 291).

ب ـ لقد انشغلت عن كلِّ شيءٍ بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبةٌ تزري بكلِّ المصائب، كما أنَّها انشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أي مشاركةٍ في أيِّ شأنٍ من الشؤون، فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول ـ في كلِّ لحظةٍ من لحظاته ـ بشؤون الأمَّة، وحروب الردَّة، وغيرها، كما أنَّها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله (ﷺ) بأنَّها أوَّل من يلحق به من أهله، ومن كان في مثل علمها، لا يخطر بباله أمور الدُّنيا، وما أحسن قول المهلَّب؛ الذي نقله العيني: ولم يروِ أحدٌ، أنَّهما التقيا وامتنعا عن التسليم، وإنَّما لازمت بيتها، فعبَّر الراوي عن ذلك بالهجران (شعوط، ص 108).

هذا ومن الثَّابت تاريخياً، أنَّ أبا بكرٍ دام أيام خلافته يعطي أهل البيت حقَّهم في فيء رسول الله (ﷺ) في المدينة، ومن أموال فدك، وخمس خيبر، إلا أنَّه لم ينفذ فيها أحكام الميراث، عملاً بما سمعه من رسول الله (ﷺ)، وقد روي عن محمَّد بن عليٍّ بن الحسين المشهور بمحمَّد الباقر، وعن زيد بن عليٍّ أنَّهما قالا: إنَّه لم يكن من أبي بكرٍ ـ فيما يختص بإبائهم ـ شيءٌ من الجور، أو الشَّطط، أو ما يشكونه من الحيف، أو الظُّلم (الندوي، ص 90-91).

ولمّا توفِّيت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بعد رسول الله (ﷺ) بستَّة أشهرٍ على الأشهر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه عهد إليها: أنَّها أوَّل أهله لحوقاً به، وقال لها مع ذلك: « أما ترضين أن تكوني سيِّدة نساء أهل الجنَّة ». وذلك ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، عن مالكٍ عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه، عن جدِّه عليِّ بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء، فحضرها أبو بكر، وعمر، وعثمان، والزُّبير، وعبد الرحمن بن عوف، فلمّا وُضِعت ليُصلَّى عليها، قال عليٌّ: تقدَّم يا أبا بكرٍ! قال أبو بكر: وأنت شاهد يا أبا الحسن ؟! قال: نعم تقدم، فوالله لا يصلِّي عليها غيرك، فصلَّى عليها أبو بكرٍ، ودفنت ليلاً، وجاء في روايةٍ: صلَّى أبو بكرٍ الصِّدِّيق على فاطمة بنت رسول الله (ﷺ) فكبَّر عليها أربعاً. وفي روايةِ مسلمٍ: صلَّى عليها عليُّ بن أبي طالب (مسلم، رقم: 1759).

هذا وقد كانت صلة سيِّدنا أبي بكرٍ الصِّدِّيق خليفة رسول الله (ﷺ) بأعضاء أهل البيت صلةً ودِّيَّةً تقديريَّةً تليق به، وبهم، وقد كانت هذه المودَّة والثِّقة متبادلتين بين أبي بكرٍ، وعليٍّ، فقد سمَّى عليٌّ أحد أولاده بأبي بكرٍ، وقد احتضن عليٌّ ابن أبي بكر محمَّداً بعد وفاة الصِّدِّيق، وكفله بالرِّعاية، ورشَّحه للولاية في خلافته حتى حسب عليه، وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله (الندوي، ص 90-98).

المراجع:

1. الندوي، أبو الحسن، المرتضى سيرة أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الثانية 1419هـ 1998م.

2. الدينوري، ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، المكتب الإسلامي- مؤسسة الإشراق، الطبعة الثانية، 1419ه.

3. ابن كثير، الحافظ الدمشقي، البداية والنِّهاية، دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ 1988م.

4. شعود، إبراهيم علي، أباطيل يجب أن تُمحى من التَّاريخ، المكتب الإِسلامي الطَّبعة السادسة 1408هـ 1988م.

5. السحيمي، سليمان بن سالم بن رجاء، العقيدة في أهل البيت بين الإِفراط والتفريط، مكتبة الإِمام البخاري، الطَّبعة الأولى 1420هـ 2000م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022