الجمعة

1447-02-07

|

2025-8-1

مفهوم "التمكين" بين ظواهر الأحداث وبواطنها

مختارات من كتاب "فقه النصر والتمكين" للدكتور علي محمد الصلابي

 

إننا كثيراً ما نجد في القرآن الكريم والسنُّة النبوية المطهرة، أن من الأنبياء من قتله أهل الكفر والشرك، كيحيي وزكريا عليهما السلام وغيرهما، ومنهم من حاول قومه قتله إلا أن الله نجاه منهم كنبينا محمد وعيسى ابن مريم عليه السلام، وكإبراهيم الذي ترك قومه وعشيرته مهاجرًا إلى الشام، ونجد من أهل الإيمان على مر العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب، وفيهم من يلقى في خدود الأرض المليئة بالنيران المحرقة، ومنهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟ وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟ (1).

يقول سيد قطب - رحمه الله -: (ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل، ويفعل بها الأفاعيل: إن الناس يقيسون بظواهر الأمور، ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير. إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة، فأما المقياس الشامل، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر، ولا بين مكان ومكان، ولو نظرنا إلى قضية الإيمان والاعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك. وانتصار قضية الإيمان هو انتصار أصحابها، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها.

والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم، قريبة الرؤية لأعينهم، ولكن صور النصر شتى، وقد يلتبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة.. إبراهيم عليه السلام وهو يلقي في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها.. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك - في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار، هذه صورة وتلك صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد.. فأما في الحقيقة قريب من قريب).

(وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يودع القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزًا محركًا للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزًا محركًا لخطى التاريخ كله مدى أجيال).

(إن هناك حالات كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة: ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة، لقد انتصر محمد في حياته، لأن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه العقيدة بحقيقتها الكاملة في الأرض، فهذه العقيدة لا يتم تمامها إلا بأن تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جميعًا، من القلب المفرد إلى الدولة الحاكمة، فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته، ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة، ويترك هذه الحقيقة مقررة في واقعية تاريخية محدودة مشهودة، ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة بصورة أخرى بعيدة، واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية وفق تقدير الله وترتيبه) (2).

المراجع والمصادر:

(1) حقيقة الانتصار، ناصر سليمان العمر، دار الوطن للنشر، الرياض السعودية، الطبعة الأولى 1412هـ، ص (13، 14).

(2) ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3086).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022