العقيدة ليست مختصّة بالإسلام، بل كل ديانة أو مذهب لا بدّ لأصحابه من عقيدة يقيمون عليها نظام حياتهم، وهذا ينطبق على الجماعات والأفراد والأمم الشعوب، والعقائد منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قسمان:
الأول: يمثل العقيدة الصحيحة، وهي تلك العقائد التي جاءت بها الرسل الكرام في أي زمان ومكان، وهي عقيدة واحدة؛ لأنها منزلة من العليم الخبير الحكيم العزيز.
والقسم الثاني: يشمل العقائد الفاسدة على كثرتها وتعددها، وفسادها ناشئ من كونها نتاج أفكار البشر، ومن وضع مفكريهم وعقلائهم، وعلمهم محدود ومقيد بقيود بشرية متمثلة في العادات والتقاليد والأفكار, وأحياناً يأتي فساد العقيدة من تحريفها، وتغييرها وتبديلها، كما هو الحال للعقيدة اليهودية والنصرانية في الوقت الحاضر، فإنهما حُرّفتا منذ عهد بعيد، ففسادهما كان من هذا التحريف، وإن كانت عقيدة سليمة في الأصل (1).
أين العقيدة الصحيحة اليوم؟
العقيدة الصحيحة لا توجد إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما محفوظتان, لحفظ الله لهما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9] والعقائد في غير الإسلام -وإن كان في بعضها قليل من الحق- فإنها لا تمثل الحق، ولا تجليه؛ فالعقيدة الصحيحة السليمة لا توجد في اليهودية ولا في النصرانية، ولا في كلام الفلاسفة ...وإنما توجد في الإسلام في أصليه: الكتاب والسنة, نديّة, طريّة, صافية مشرقة، تملاْ الفؤاد إيماناً ونوراً وحياة ويقيناً، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ...)[الشورى: من الآية52]. (3) وتقنع العقل بالحجة والبرهان (...إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الروم: من الآية24] وتنسجم مع الفطرة (...فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا...)[الروم: من الآية30]
ماذا تعني العقيدة ؟
العقيدة الإسلامية ضرورية للإنسان؛ أنه بدونها ائه ضائع يفقد ذاته ووجوده، والعقيدة الإسلامية وحدها التي تجيب عن لتساؤلات التي شغلت ولا تزال تشغل الفكر الإنساني، بل تحيّره: من أين جئت؟ ومن أين جاء هذا الكون؟ وما دورنا في هذا الكون؟ ما علاقتنا بالخالق الذي خلقنا؟ وهل هناك عوامل غير منظوره وراء هذا العالم المشهود؟ وهل هناك مخلوقات عاقلة مفكرة غير هذا الإنسان؟ وهل بعد هذه الحياة من حياة أخرى نصير إليها؟ وكيف تكون تلك الحياة إن كان الجواب بالإيجاب؟
لا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية اليوم تجيب عن هذه الأسئلة إجابة صادقة مقنعة و كل من لم يعرف العقيدة، و من لم يعتنقها فإن حاله لن يختلف عن حال ذلك الشاعر البائس (2) الذي لا يدري شيئاً :
***
جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت، قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود
هل أنا حرٌّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني أدري ولكنـــــــي
لست أدري!!
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير
هل أنا أصعد أم أنا أهبط فيه وأغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب تسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجــــــري
لست أدري!!
ليت شعري وأنا في عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أنني فيه دفين
وبأني سوف أبدو وبأني سأكون
أم تراني كنت لا أدرك شيئاً؟
لست أدري!!
أتراني قبلما أصبحت إنساناً سوياً
كنت محواً أو محالاً أم تراني كنت شيئاً
أًلهذا اللغز حلٌّ؟ أم سيبقى أبدياً
لست أدري .... لماذا لست أدري
لســــــت أدري!! (3)
وهذا الشاعر الملحد فقد معرفة الحقائق الكبرى؛ فأصبح في هذه الحيرة والقلق والشك والأمراض النفسية, وأين هو من المسلم الذي يدري ويعرف معرفة مستيقنة كل هذه الحقائق، فإذا هو يجد برد اليقين، وهدوء البال، وإذا هو يسير في طريق مستقيم إلى غاية مرسومة يعرف معالمها، ويدري غايتها.
قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (4)
وقال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (5)
واستمع إلى الشاعر البائس يتحدث عن الموت والمصير:
***
إن يك الموت قصاصاً: أي ذنب للطهارة؟
وإن كان ثوباً، أي فضل للدّعارة
وإذا كان وما فيه جزاء أو خسارة
فَلِمَ الأسماء إثم وصلاح
لست أدري
إن يك الموت رقاداً بعده صحو طويل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل
ومتى ينكشف الستر فيدري؟
لست أدري
إن يك الموت هجوعاً يملأ النفس سلاماً
وانعتاقاً لا اعتقالاً وابتداءً لا ختاماً
فلماذا لا أعشق النوم ولا أهوى الحمام؟
ولماذا تجزع الأرواح منه
لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياة، فخلود، أم فناء فدثور؟
أكلام الناس أصدق أم كلام الناس زور؟
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري
إن أكن أُبعث بعد الموت جثماناً وعقلا
أترى أُبعث بعضاً أم تُرى أُبعث كُلا
أتُرى أُبعث طفلاً أم تُرى أُبعث كهلا؟
ثم هل أعرف بعد الموت زلالتي؟
لست أدري (6)
(لست أدري ) تلك هي الإجابة عن التساؤلات الخالدة، وليست هي قول شاعر فحسب
( فسقراط) الفيلسوف الذي يُعدّ من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة: (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري) (7) بل إن(اللاأدريّة) مذهب فلسفي قديم .
( فسقراط) الفيلسوف الذي يعد من عمالقة الفلاسفة، يقول بصريح العبارة: (الشيء الذي لا أزال أجهله جيداً أنني لست أدري) (8) بل إن( اللاأدريّة) مذهب فلسفي قديم .
إنه الضلالة. الضلالة عن الحقيقة إنه الشقاء: شقاء القلب تعاسة النفس وضياع الضمير المثقل المكدود، وكم في الحياة من أمثال هذا الشاعر البائس الضالّ، بعضهم يستطيع أن يفصح عن شكوته وحيرته، وبعضهم يحسّ ويعاني وتبقى أفكاره حبيسة نفسه الشقية(9).
بالإسلام وحده يصبح الإنسان يدري، يدرى من أين جاء، والى أين المصير، يدري لماذا هو موجود وما دوره في هذه الحياة. قال تعالى:( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (10).
إن البشرية تخبط في دياجير الظلام، وانتكست في مهاوي الشرك، وضلّت عن سواء السبيل، وانحرفت عن منهج التوحيد، الذي جاء به الأنبياء والرسل، فأُصيبت البشريّة في عقلها وفكرها وقلبها بالشرك، وما ينبثق عنه من ضياع في المنهج والفكر والعقيدة والأخلاق، فانحرفت اليهودية عن التوحيد الذي جاء به موسى عليه السلام، على دراية من أحبارهم وعلمائهم ولذلك غضب الله عليهم، وأضاعت النصارى الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام فضلّوا سواء السبيل.
فأصبحت البشرية في ظلمه شديدة قبل نزول القرآن وبزوغ فجر الإسلام، كانت البشرية قبل نزول القرآن تعجّ بركام العقائد والتصوّرات المنحرفة في ذات الله، وفي الكون وفي الحياة وفي الإنسان والموت، وفي الجزاء وفي الحساب وفي الكتب السماوية وفي رسل الله وفي أقدار الله وقضائه، وأصبحت البشرية بين إفراط وتفريط بعيدة عن الصراط المستقيم، حائدة عن الوسطيّة والاعتدال، والاستقامة فبعض البشر زعم أن الملائكة بنات الله، ثم عبدوا الملائكة كما فعل مشركو العرب، وبعضهم قالوا: عيسى ابن الله كما فعلت النصارى، وبعضهم قالوا: عزيز ابن الله كما فعلت اليهود. ووصفوا المولى -عز وجل- بصفات لا تليق به من صفات النقص، وشبّهوه بمخلوقاته، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وشاعت بين البشرية عبادة الأصنام، إما بوصف تماثيل للملائكة، أو بوصف تماثيل للأجداد، وإما لذاتها، وكانت الكعبة، التي بُنيت لعبادة الله وحده، تعجّ بالأصنام؛ إذ كانت تحتوي على ثلاثمائة وستين صنماً غير الأصنام الكبرى في جهات متفرقة.
ومما يدل على أن اللات والعزى ومناة كانت تماثيل لملائكة كما جاء في القرآن الكريم في سورة النجم: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (11)
وانتشرت بين الناس عبادة الكواكب، وكانت قبيلة حمير تعبد الشمس و كنانة تعبد القمر، ولخم وحزام المشتري، وطي تعبد سهيلاً وقيس تعبد العبور. وأسد تعبد عطارد، وقد جاء عن هذا في سورة فصلت (... لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (12)
وجاء في سورة النجم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) (13).
وكثرت الإشارات إلى خلق النجوم والكواكب وربوبية الله سبحانه لها كبقية خلائقه. ونفى ألوهية الكواكب وعبادتها.
لقد سادت الصورة الشائعة للتصورات في الجزيرة العربية حيث عبادة الأصنام، وفي بلاد فارس حيث الديانة المجوسيّة، وفى بلاد الشام والرومان حيث النصرانيّة المنحرفة، واليهوديّة المغضوب عليها، وأصبحت البشرية شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً تعجّ بركام من بقايا العقائد السماويّة المنحرفة، تجثم على ضمير البشرية في كل مكان، والذي كانت تنبثق منه أنظمتهم وأوضاعهم وآدابهم وأخلاقهم (14) ومن ثم كانت عناية الإسلام الكبرى موجهة إلى تحرير العقيدة، وتحديد الصورة الصحيحة التي يستقر عليها الضمير البشري في حقيقة الألوهيّة وعلاقتها بالخالق، وعلاقة الخالق بها
فتستقرّ عليها نظمهم وأوضاعهم، وعلاقتهم الاجتماعية والاقتصاديه والسياسية، وأدبهم وأخلاقهم كذلك. فما يمكن أن تستقر هذه الأمور كلها، إلا أن تستقر حقيقة الألوهية، وتتبين خصائصها واختصاصاتها.
وعُني الإسلام (في أصليه الكتاب والسنة) بإيضاح طبيعة الخصائص والصفات الإلهية المتعلقة بالخلق والإرادة والهيمنة والتدبير .. ثم بحقيقة الصلة بين الله والإنسان ... فلقد كان لمعظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه العقائد والفلسفات، مما يتعلق بهذا الأمر الخطير-الأثر في الضمير البشري وفى الحياة الإنسانيه كلها.
فالذي يعرف الجاهلية هو الذي يدرك قيمه الإسلام، ويعرف كيف يحرص على رحمة الله المتمثلة فيه، ونعمة الله المحققة به أن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها ... إن هذا كله لا يتجلّى للقلب والعقل، كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية– السابقة للإسلام واللاحقة – عند إذن تبدو هذه العقيدة رحمة ... رحمة حقيقية ... رحمة للقلب والعقل، ورحمة بالحياة والأحياء، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق وقرب وأنس، وتجاوب مع الفترة مباشر عميق (4 ).
1- انظر العقيدة في الله ص (11).
2- انظر العقيدة في الله ص ( 12)
3- هو إيليا أبو ماضي من قصيدة له طويلة بعنوان (الطلاسم) من ديوانه ( الجداول) ص (106 ).
4- الجداول ص (106 )
5- سورة الروم آية : 40
6- سورة الداريات آية : 56
7- الجداول ص (107)
8- الدين لدراز ص (69)
9- انظر: العقيدة في الله ص (15)
10- سوره تبارك ، آية 22
11- سورة النجم :الآيات (19-28)
12- سوره فصلت آية 37
13- سوره النجم آية 49
14- خصائص التصور الاسلامى ومقوماته (46,42)
المصدر : الاسلام اليوم