عند النظر في آراء العلماء المعاصرين في الإباضية ونظرتهم إليهم نجد أنهم أكثر تسامحاً من علماء الفرق القدامى، في هذا المقال نتناول آراء ثلاثة منهم، وسنتبعهم بغيرهم في مقالات لاحقة إن شاء الله.
يقول الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه "المذاهب الإسلامية": "الإباضية هم أتباع عبد الله بن إباض وهم أكثر الخوارج اعتدالا وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيرًا، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ولذلك بقوا، ولهم فقه جيد وفيهم علماء ممتازون، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية، وبعض آخر في بلاد زنجبار، ولهم آراء فقهية. وقد اقتبست القوانين المصرية في المواريث بعض آرائهم وذلك في الميراث لولاء العشاق فإن القانون المصري أخرّه عن كل الورثة حتى الرد على أحد الزوجين، مع أن المذاهب الأربعة كلها تجعله عقب العصبة النسبية، ويسبق الرد على أصحاب الفروض والأقارب"، وإلا أن جملة آراء الإباضية هي:
- إن مخالفيهم من المسلمين ليسوا مشركين ولا مؤمنين ويسمونهم كفارًا، ويقولون عنهم أنهم كفار نعمة لا كفار في الاعتقاد وذلك لأنهم لم يكفروا بالله، ولكنهم قصروا في جنب الله تعالى.
- دماء مخالفيهم حرام، ودارهم دار التوحيد والإسلام، إلا معسكر السلطان ولكنهم لا يعلنون هذا، فهم يسرون في أنفسهم أن دار المخالفين ودماءهم حرام.
- لا يحل من غنائم المسلمين الذين يحاربون إلا الخيل والسلاح وكل ما فيه من قوة في الحروب، ويردون الذهب والفضة.
- تجوز شهادة المخالفين ومناكحتهم والتوارث معهم.
- في هذا كله يتبين اعتدالهم وإنصافهم لمخالفتهم.
ويقول الشيخ العلامة أبو زهرة: فرق لها مذاهب فقهية: هذه الفرق السياسية منها ما ليس له مذهب فقهي قائم بذاته، ومنها من ليس له مذهب فقهي، ويتبع مذهب طائفة أخرى قريبة منه في الاعتقاد، وأن الفرق التي لها مذاهب فقهية معتبرة ثلاثة هي: -الإباضية، وهم أتباع عبد الله بن إباض، ولهم فقه مدون، ولهم جهود كبيرة في تحرير مذهبهم.
يورد عامر النجار رأيه بالإباضية في القول: "تعد الإباضية من أقرب الفرق إلى الجماعة الإسلامية لاعتدال مذهبهم وبتسامحهم إلى مخالفيهم، ولكنهم يغضبون ممن يعتبرهم فرقة من الخوارج |
وقد علق الشيخ علي يحي معمر على كلام أبو زهرة، فقال: ورغم أنه أبدى كثيرًا من الاعتدال، واستعمل الرقة واللطف، وسجل له آراء جديدة سلمية في موضوع الفرق وعن الإباضية بالذات، إلا أنه لم يسلم من التأثر بالأقوال السابقة التي ينقصها التحقيق والتدقيق في التعبير وجلاء المعاني لكشف الحقائق كشفاً لا يحتمل الإيهام أو الإبهام.
وقال: ورغم أن الأستاذ أبا زهرة يعترف أن الإباضين يتسمون بالاعتدال وينصفون مخالفيهم وأن لهم فقهًا جيدًا مدونًا، وأن لعلمائهم جهودًا في تحرير مذهبهم، فإن هذا كله لم يشفع للإباضية عند أبي زهرة أن يخرجهم من نطاق الخوارج، أو حتى من هذه التسمية الجديدة "الأحزاب الدينية"، ورغم أن مثل هذه الصفات أو أقل منها للزيدية والجعفرية من الشيعة، فاعترف بهم الأستاذ أبو زهرة وكتب عن فقههم ومذاهبهم إلا أن موقفه من الإباضية كان –فيما يظهر لي- موقف الرجل الذي يعرف الحق في قضية من القضايا فيدور حوله ويصفه من بعيد، ولا يجسر أن يعلنه في صراحة، لأن رواسب معينة تحول دون ذلك .ثم قال: ولسنا نشك أن الأستاذ أبا زهرة يعرف من حقيقة الإباضية ما يعرفه الإباضية أنفسهم عن آرائهم ومقالاتهم ولو تحرر من رواسب الماضي لما ذكرهم في الخوارج ولا في الأحزاب الدينية . واختصر الشيخ علي يحيى معمر ما كتبه الشيخ أبو زهرة في النقاط الآتية:
- اعتماده على مصادر الآخرين عند الكتابة عن الإباضية ومقالاتهم، كان بإمكانه أن يعتمد على كتب الإباضية أنفسهم.
- استعمال نفس التعابير الملتوية الموهِمة التي كانت تستعملها كتب مقالات الإسلاميين منذ قرون.
- تغافله عن دسائس السياسة، بحيث أصبح التركيز على معسكرين فكانت كلمة "مخالفيهم" هو محور الحديث.
- انسياقه وراء آراء المستشرقين أو من أخذ عنهم في تقسيمهم الأمة إلى قسمين كبيرين: مذاهب فقهية وأحزاب دينية.
- إهماله للكتابة عن المذهب الإباضي وفقهه وقد كتب عن كل من المذاهب الفقهية وما يسميه بالأحزاب الدينية.
- إرضاء أصحاب المقالات السابقين، ومن يترسم خطاهم، فقد أخرج الأستاذ أبو زهرة الإباضية في فرق الخوارج.
وظهرت أثر تربية المدرسة الإباضية في أسلوب الشيخ علي يحي المعمر، وهو يتحدث عن العلاّمة أبو زهرة في قوله: ويسرني في ختام هذا الفصل أن اعتذر إلى أستاذنا الكبير أبي زهرة عن أية عبارة قد يستشعر منها سوء أدب معه، فأنا على جميع الأحوال أكن له من الاحترام والتقدير ما يستحقه هو وأمثاله من علمائنا من فضلاء علمائنا الأجلاء الذين خدموا الإسلام في هذا العصر خدمة لا تنساها الأجيال. وإذا كتبت عليه في النقاط السابقة، فإنما هو موقف المتعلم الجسور الصريح مع العالم، غزير المادة وواسع الاطلاع، وكذلك الحليم الذي يحتمل شغب المتعلمين بصدر رحب.
جاء رأي الدكتور مصطفى بن صالح باجو بالإباضية في قوله: "أما عن علاقة الإباضية بالخوارج، فإنها قضية أسالت من مداد القدامى والمحدثين الشيء الكثير، ولئن اتفقت كتب المقالات على حشر الإباضية في زمرة الخوارج، فإن المصادر الإباضية تنفي هذه الصلة، وتتبرأ من المنكرات التي أحدثها الخوارج في الإسلام". وأضاف: ".. يعتبر الإباضية الخروج الذي ورد في الأحاديث النبوية خروجًا دينيًا بمعنى المروق من الدين بتغيير أحكامه والتعدي على حرماته وهو ما فعله الأزارقة والنجدات وغيرهم من المتطرفين، أما الخروج بالمفهوم السياسي وهو الخروج عن طاعة السلطان، فإن الإباضية قد آثروا الانعزال عن الإمام علي بعد أن ساوم معاوية في حق شرعي ثابت، وبيعة صحيحة".
الإباضية لا ينكرون الإجماع، بل يرونه الأصول الثالثة من أصول التشريع ولا ينكرون الرجم، وإنما يقولون إنه ثبت بالسنة القولية والعملية وليس بقرآن منسوخ، ويثبتون عذاب القبر وسؤال الملَكين استنادًا إلى أحاديث كثيرة |
وعلى فرض اعتبار ذلك خروجًا، فإنه لا مبرر لحصره في فئة دون أخرى، إذ إن طلحة، والزبير قد خرجًا على إمام شرعي، ونقضًا بيعة صحيحة كما أن معاوية نفسه، قد نازع الإمام عليًا السلطة وهو إمام بايعه المسلمون اتفاقًا وحارب معاوية في صِفّين، وأعقب ذلك فتن عمياء أودت بخيار صحابة رسول الله. على أن الحديث عن هذه القضايا اليوم وبروح الإدانة والمحاكمة، إحياء لفتن لم نشهدها ولم نُبتل بها، وتطهير الألسنة عنها أسلم للدين والدنيا جميعاً ولكن المؤسف أن أحداث الفتنة الكبرى التي انطلقت شرارتها بمقتل الخليفة عثمان بن عفان، لا زال المسلمون يتنفسون دخانها المتصاعد إلى اليوم، وقد حجبتهم هذه الأدخنة الكثيفة عن رؤية بعضهم لبعض على الوجه النقي الحقيقي.
يورد عامر النجار رأيه بالإباضية في القول: "تعد الإباضية من أقرب الفرق إلى الجماعة الإسلامية لاعتدال مذهبهم وبتسامحهم إلى مخالفيهم، ولكنهم يغضبون ممن يعتبرهم فرقة من الخوارج وسبب إلصاق تهمة الإباضية بالخوارج سياسية الدولة الأموية في التشنيع على الإباضية حتى ينفروا الناس من أصحاب المذهب الإباضي الذين وجدوا منهم الصلابة في مواقفهم ضد الدولة الأموية وتقبل كثير من المتعصبين والعامة أيضا هذا الإلصاق فأثبتوه في كتبهم –بدون تمحيص أو بحث-عن الحقيقة".
ولعل أبرز سبب لاتهام الإباضية بأنهم خوارج إنكارهم التحكيم والحقيقة أن بعض كتاب المقالات والفرق الإسلامية كانوا في حكمهم على الإباضية قساة غير موضوعيين، ويبدوا أن أصحاب المقالات، نظروا إلى جميع ما ينسب إلى الخوارج –بحق أو باطل-فنسبوه إلى الإباضية، ومن الأمثلة على ذلك هو نكران الإجماع ونكران الرجم ونكران عذاب القبر.
والإباضية لا ينكرون الإجماع، بل يرونه الأصول الثالثة من أصول التشريع ولا ينكرون الرجم، وإنما يقولون إنه ثبت بالسنة القولية والعملية وليس بقرآن منسوخ، ويثبتون عذاب القبر وسؤال الملَكين استنادًا إلى أحاديث كثيرة تثبت في الموضوع.
وإنني أميل بشدة إلى رأي الدكتور عوض خليفات الذي يؤكد من خلاله على أن الإباضية ليسوا من الخوارج؛ لأن الإباضية حرموا قتل الموحدين واستحلال دمائهم، وحرموا استعراض الناس وامتحانهم، كما فعل متطرفو الخوارج مثل الأزارقة والنجدية، أما ما تلصقه بهم بعض المصادر من تُهم، فإنما هي ناتج عن أحد أمرين الجهل أو التعصب. وإن الإباضية يبرؤون من أفعال الخوارج فكيف ينسبون إليهم وقد كانوا من أشد الناس عليهم.
المراجع:
1- علي محمد الصلابي، الإباضية مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج، 2018/2019.
2- علي يحيى معمر، الإباضية بين الفرق الإسلامية، مكتبة الضامري للنشر، عمان، الطبعة الثالثة 2014، ص.ص (97-99)، (108-109).
3- محمد أحمد بن زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، ص97، ص127.
4- مصطفى صالح ياجو، أبو يعقوب الورجلاني أصولياً، ط2 2007.ص51.
5- عامر النجار، الإباضية ومدى صلتها بالخوارج ، ص. ص (85-86).
المصدر : مدونات الجزيرة