خير ما يتصدى به المؤمن الموحد للملحدين القرآن الكريم الذي يحوي إشارات في كل العلوم
بعض الإشارات القرآنية كانت جديدة على المخاطبين بالقرآن أول مرة لا يعرفون أسرارها
ليس كل ما يقال في الساحة العلمية حقائق فبعضها فرضيات وأخرى مازالت في طور النظرية
انكشاف الحقائق العلمية التي يحتويها القرآن للبشر جيلاً بعد جيل جانب من جوانب استمرارية الرسالة
حمَلتْ آيات الإعجاز في القرآن الكريم معانيَ كثيرة دالة على حقيقة الوحدانية لله عز وجل، وسمو رسالة الإسلام ودورها في سعادة وخير الإنسانية جمعاء، ولكن واقع الحال الذي تعيشه الأمة جعل الانحرافات والقال والقيل في عقيدة دين الإسلام تكثر لدى ضعاف النفوس وأصحاب الهوى وأتباع السلطان، فكثر التنطع والتكفير والتحريف من جهة، والإلحاد وقول الباطل وتشتيت العقائد لدى البعض من جهة أخرى.
فلماذا ظهر الإلحاد؟ وكيف اختلطت الأفكار والعقائد على أصحابها في زماننا؟ وكيف تمثلت قيم العبودية والوحدانية والربوبية لله سبحانه وتعالى في آيات القرآن الكريم؟
تعريف الإلحاد:
الإلحاد: العُدُول عن الاستقامة والانحراف عنها، وأَلْحَدْتُ: مَارَيْتُ وجَادَلْتُ، وفي قوله تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) (الحج: 25)؛ أَي انحرافاً بظلم، وقد أَلْحَد في الحَرَمِ: تَرَكَ القَصْدَ فيما أُمِرَ به ومالَ إلى الظلم، وألحد في الحرم: أشرك بالله تعالى، وقيل: الإلحاد فيه: الشك في الله، وأصل الإلحاد الميل والعدول عن الشيء، ولاحد فلان فلاناً: اعوج كل منهما على صاحبه ومالا عن القصد، والملتحد: الملتجأ والملجأ، أي لأن اللاجئ يميل إليه، قال تعالى: (وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً {22}) (الجن)، قال الإمام الطبري رحمه الله: «يقول تعالى ذِكْرُه: ومن يرد فيه إلحاداً بظلم نذقه من عذاب أليم، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم، واختلف أهل التفسير في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم، فقال بعضهم: ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به، وقال آخرون: هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه، عن ابن عباس، قوله: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ {25}) يعني أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أو قتل، فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم، وقال آخرون: بل ذلك احتكار الطعام بمكة، وقال آخرون: بل ذلك كل ما كان منهياً عنه من الفعل».
أما الإلحاد اصطلاحاً فهو إنكار وجود الإله الخالق، أو إنكار تصرفه في مخلوقاته.
القرآن سلاح ضد الإلحاد:
وخير ما يتصدى به المؤمن الموحد للملحدين هو القرآن الكريم، فهو المعجزة الخالدة، ومع أن القرآن الكريم ليس كتاب علوم، ولا كتاب فيزياء أو فلك أو كيمياء أو أحياء، ولكنه مع ذلك يحوي إشارات في كل تلك العلوم، وموضع هذه الإشارات في كتاب الله هو تعريف الناس بقدرة ربهم التي لا تحد وبآيات قدرته في هذا الكون، ليعرفوا أنه لا إله غيره، ولا مدبر غيره، ولا رازق غيره، ولا مهيمن غيره، فيعبدوه وحده بلا شريك ويتبعوا ما أنزل إليهم.
وبعض هذه الوصايا القرآنية كان معلوماً مشاهداً بالنسبة للمخاطبين بها؛ فكان ذكرها لهم، وتذكيرهم بها، مقصوداً به لإزالة الغشاوة التي تغشى على بصائرهم فتجعلهم لا يدركون الدلالة الواضحة التي يجب أن تستمد منها، وهي أنه ما دام الله هو الذي يقدر، وهو على كل شيء قدير، ولا أحد يقدر قدرته، ولا يدبر تدبيره، ولا يهيمن هيمنته؛ فالعبادة ينبغي أن توجه إليه وحده دون الآلهة المزعومة التي لا تخلق، ولا تقدر، ولا تدبر، ولا تهيمن، ولكن بعض هذه الإشارات كانت جديدة على أولئك المخاطبين بالقرآن أول مرة، لا يعرفون أسرارها أو تفصيلاتها، وقال لهم الله في كتابه المنزل: إنهم سيعرفونها ذات يوم، وفي قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53)، وقوله عز وجل: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {93}) (النمل)، وقوله تعالى: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ {88}) (ص).
أما الذين آمنوا فقد أخذوا هذه الإشارات بالتسليم وإن كانوا لا يعرفون كل شيء عنها، ما دامت من عند ربهم الذي آمنوا به وصدقوه، وقال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ) (البقرة: 26)، وفي قوله سبحانه وتعالى: (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) (آل عمران: 7)، ولكن أجيالاً وراء أجيال كانت تتعرف رويداً رويداً على بعض أسرار هذه الوصايا الإيمانية، فتزيدها المعرفة إيماناً، وإن كانوا مؤمنين مصدقين من قبل.
الإشارات القرآنية.. والعصر الحديث:
وفي عصرنا الحديث هذا الذي اتسعت فيه دائرة العلوم وانكشف فيه كثير من أسرار الكون، تبينت للناس حقائق كثيرة تتعلق بالإشارات القرآنية لم تكن معلومة من قبل، فازداد الناس تعلقاً بتلك الإشارات، وقامت بشأنها أبحاث متخصصة يقوم بها علماء مسلمون في شتى فروع المعرفة، وقامت دعوة تهدف إلى الإكثار من هذه الأبحاث، من أجل إقناع غير المسلمين بالإسلام عن طريق إثبات صدق القرآن، وأنه وحي منزل من عند الله تبارك وتعالى، إذ لم تكن المعلومات الواردة فيه معروفة للبشرية كلها من قبل، فيستحيل أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن من عند نفسه كما يزعم المستشرقون وغيرهم من أعداء الإسلام، وهذا دليل في ذاته.
وقد أسلم على هداه بعض الناس بالفعل، ولكن هناك في هذا الاتجاه محاذير، فبعض الناس تدفعهم الحماسة فيتلقفون كل نظرية علمية أو مقولة غربية يظنون فيها تأييداً أو إثباتاً لإشارة من الإشارات الواردة في القرآن، فيسارعون إلى تبنيها، ويفسرون الآيات القرآنية على هداها، وليس كل ما يقال في الساحة العلمية حقائق، فبعضها لا يزيد على فرضيات، وبعضها ما زال في طور النظرية لم يصل إلى حد أن يصبح حقيقة علمية، فإذا ربطنا تفسيرنا للآيات القرآنية ببعض هذه الفرضيات، ثم تبين بعد حين من الوقت أنها لم تكن صحيحة، فإننا نقع من حيث لا ندري في الغلطة التي وقعت فيها الكنيسة بالعصور الوسطى، إذ تبنت أفكاراً علمية كانت سائدة يومئذ ففسرت بها ما جاء في التوراة والإنجيل من إشارات كونية، فلما تقدم العلم وتبين خطأ هذه النظريات كفر الناس بالتوراة والإنجيل، وكذبوا كل ما كان فيهما مما بقي على أصله المنزل، ومما حرف، ومما أسيء تأويله، فجعلوها كلها أكاذيب.
دلائل الإعجاز:
والقرآن غني بدلائل الإعجاز فيه، سواء الإعجاز البياني الذي تحدى الله به البشر جميعاً، والبلغاء في أولهم، فعجزوا عن الإتيان بمثله، أو بألوان الإعجاز الأخرى، ولا يحتاج أن نلتمس له أسانيد من النظريات المتداولة اليوم، التي قد يظهر بطلانها غداً ولكن لا بأس أن نأخذ الحقائق التي ثبتت صحتها، التي نجدها متوافقة مع ما جاء في المنهج القرآني، أو مفسرة له، ونتخذها دليلاً يضاف إلى الأدلة القائمة من قبل على أن هذا القرآن وحي رباني وهداية للناس أجمعين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، على ألا نتعسف في ربط تفسير الآيات بكل شاردة وواردة بما يسمى علماً، كما حاول بعضهم أن يفسر قوله تعالى: (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً {14}) (نوح)، بما يتفق مع نظرية التطور، بينما أصحاب النظرية ذاتهم يتشككون اليوم في صدقها، وينحون في تفسير الحياة على الأرض منحى غير منحى «دارون».
إن الله عز وجل ميز القرآن الكريم الذي يحمل كلمته الأخيرة للبشرية كافة بخصائص لا توجد في غيره، فقد كانت الرسالات السابقة محدودة بأقوام، ومحدودة بزمن معين ينتهي بإرسال رسول جديد، بينما هذه الرسالة كانت للبشر كافة، وللزمن كله من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فكانت الكتب المنزلة السابقة تحوي احتياجات الأقوام الذين تنزل عليهم في الزمن المحدد في علم الله، أما القرآن، فقد أنزل الله فيه ما تحتاج إليه البشرية كلها، وفي الزمن القادم كله، فلا عجب أن يختلف عن الكتب السابقة في مبناه ومحتوياته، وإن كان مصدقاً لما فيها، ولكن مهيمناً عليها، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: 48).
والإعجاز العلمي كان واحداً من جوانب التميز التي تفرد بها، وانكشاف الحقائق العلمية التي يحتويها للبشر جيلاً بعد جيل هو جانب من جوانب استمرارية الرسالة التي نزل بها الكتاب، فهو ليس لجيل واحد تنتهي مهمته بعدها، أو تنقطع صلة الأجيال به، بل هو لكل الناس في كل جيل، يهديهم إلى ربهم، ويوجههم إلى الخير وإلى الحق، ويربيهم على المنهج القويم ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.
المراجع:
1- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة لحد.
2- تاج العروس من جواهر القاموس، مادة لحد.
3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 18/ 595 وما بعدها.
4- علي محمد الصلابي، المعجِزَةُ الخَالِدَةُ.. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، ص 14-16.
المصدر : مجلة المجتمع