الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)
الولاة والإدارة في عهد معاوية رضي الله عنه
الحلقة: الخامسة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
حاول معاوية رضي الله عنه طيلة فترة خلافته أن يجعل أسلوب حكمه في وضع بين المركزية واللامركزية؛ فقد اتخذ من دمشق عاصمة للدولة ، وغدت المركز الرئيس الذي تصدر منه الأوامر السياسية والاقتصادية والإدارية للدولة ، أما ترتيب أمور الولايات داخلياً فقد ترك معاوية رضي الله عنه للولاة ليقوموا به كل حسب خبرته وجدارته ، على أن يكونوا جميعاً مسؤولين أمام معاوية رضي الله عنه مسؤولية مباشرة ، ومحاسبين على كل عمل يقومون به.
ولعل من ضمن الأسباب التي حدت بمعاوية لأن يتخذ من دمشق عاصمة للدولة الأموية؛ هو: معرفته الجيدة بأهل الشام وثقته التامة فيهم وفي ولائهم له ، فقد أمضى معاوية رضي الله عنه هناك قرابة عشرين عاماً أميراً على بلاد الشام ، كان خلالها يتمتع بشعبية كبيرة بينهم ، ولعلّ معاوية رضي الله عنه كذلك كان يشعر أن استمرار دولة الأمويين يعتمد في درجة كبيرة على مدى المساعدة التي يقدمها إليه أهل الشام خاصة ، كان معاوية رضي الله عنه يعي هذه المسائل جيداً ويعيرها جلّ انتباهه ، لذلك حاول جهده منذ البداية أن يعمل على حفظ التوازن بين رجالات القبائل العربية المختلفة في بلاد الشام ، وعلى درجة الخصوص القبائل اليمانية والقبائل القيسية ، وقد عمل معاوية رضي الله عنه كل ما في استطاعته لإيجاد التوازن بين مصالح الطرفين في بلاد الشام ، فقد كان في خدمة معاوية رضي الله عنه رجالات من القيسية؛ أمثال: الضحاك بن قيس الفهري ، وحبيب بن مسلمة الفهري ، مثلما كان هناك رجالات من اليمانية؛ أمثال: مالك بن هبيرة السكوني ، وشرحبيل بن سمط الكندي ، وحسان بن بحدل الكلبي وغيرهم ، كما أن معاوية رضي الله عنه حصل على مساعدات من كلا الطرفين إبان فترتي ولايته وخلافته ، وكانوا يحاربون إلى جانبه في جيش واحد وتحت إمرة واحدة.
وكانت سياسة معاوية تقوم على الاستعانة بأفراد من أقاربه أبناء البيت الأموي؛ مثل: عنبسة بن أبي سفيان ، وعتبة بن أبي سفيان ، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص بن أمية ، ومروان بن الحكم وابنه عبد الملك، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وغيرهم.
كما حرص معاوية رضي الله عنه على اختيار أعوانه وولاته من ذوي التجارب الواسعة من المسلمين ، كعبد الله بن عامر بن كريز ، والمغيرة بن شعبة ، والنعمان بن بشير الأنصاري ، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، وغيرهم.
ولم تكن المحاباة هي الأساس الأهم والأوحد في انتقاء معاوية لهؤلاء الرجال دون غيرهم ، وإنما كان كثير منهم ممن خدم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، ورأى أن يستفيد من جهودهم ومواهبهم؛ ولاسيما أولئك الذين أظهرتهم أحداث الفتوحات الإسلامية بالشام.
ونلاحظ أن معاوية استعان بأهل الصحبة والكفاية والولاء ولاة على الأمصار ، ومع أن معاوية رضي الله عنه اختار بعض أعوانه من أهل بيته ، يولّيهم الولايات؛ إلاّ أنه كان يعاملهم بحذر شديد إلى أن يطمئن لهم ، ويقتنع بمقدرتهم الإدارية؛ فقد كان يختارهم أول الأمر لولاية مدن صغيرة كالطائف مثلاً ، فإذا ما أظهر أحدهم مقدرة إدارية ، فإن معاوية رضي الله عنه يضم إليه مكة لتكون تحت إشرافه ، ثم يتبعها بالمدينة ، وعند ذلك يقال: هو قد حذق.
وغني عن البيان أن الطائف كانت مدينة مهمة في ذلك الوقت؛ حيث تتمركز فيها قبيلة ثقيف القوية ، وأن من يستطع من الولاة أن يسيطر على الطائف ـ سياسياً واقتصادياً ـ فإن بقية المدن تسهل السيطرة عليها بعد ذلك.
وتشير نجدة خمَّاش إلى أن معاوية رضي الله عنه جعل من مدن الحجاز مدرسة يدرّب فيها أبناء البيت الأموي على إدارة تلك الولاية والسماح لهم بالتدرّج في تلك الإدارة وفق خطوات مقررة.
وقد اتبع معاوية رضي الله عنه أسلوباً مميزاً في معاملته لبني أهله ممن يستعين بهم. فقد كان يحاول أن يجعلهم متفرقين عن بعضهم البعض، وذلك كي يتجنب أي تحالف ضده.
وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه تمتع رعايا الدولة من غير المسلمين بمنتهى التسامح والرفق، وحصلوا على امتيازاتهم بسهولة ويسر. فقد كانوا يعملون في مختلف الوظائف الحكومية ، ذلك أن معاوية رضي الله عنه أبقى على النظم البيزنطية والقبطية التي كان معمولاً بها في الشام ومصر والمغرب. كما أبقى على النظم الفارسية في العراق وخراسان. وكان ترك معاوية رضي الله عنه هذه النظم على حالتها بسبب نقص من كانوا يعرفون لغات ونظم إدارة البلاد المفتوحة من المسلمين في أوائل العهد الأموي ، وعلاوة على ذلك فقد كان طبيب معاوية رضي الله عنه الخاص ، ويدعى ابن أُثال، غير مسلم ، وكذلك سريج(سرجون) بن منصور الرومي مستشاره المالي، وابن مينا ، وابن النضير ، مولاه من عماله على الصوافي ، كانوا أيضاً من سلالة غير المسلمين ، وأسلم بعضهم فيما بعد. وفضلاً عن ذلك ترك معاوية لرعايا الدولة من غير المسلمين أيضاً حرية تامة؛ هي: ممارسة طقوسهم الدينية؛ فاستجاب لطلب نصارى دمشق بعدم زيادة كنيسة يوحنا في مسجد دمشق. كما: رمّم لهم كنيسة الرَّها (أُديسَّا) والتي كانت قد تهدمت من جراء الزلازل. كما بنيت أول كنيسة بالفسطاط في حارة الروم في ولاية مسلمة بن مخلد الأنصاري على مصر ما بين عامي (47 ـ 68 هـ).
كما استعان معاوية رضي الله عنه بمهندسين وفنّيين من غير المسلمين في بناء قصر الخضراء بدمشق الذي اتخذه معاوية مقراً لإقامته في فترة إمارته على بلاد الشام ، ثم في فترة خلافته بعد ذلك ، ويروي البلاذري: أنهم بنوه لمعاوية رضي الله عنه من الحجارة بعد أن كان قبل مبنياً باللِّبن والطين.
وكما كانت سياسة التسامح مع الرعايا غير المسلمين هي الطابع المميز لفترة خلافة معاوية رضي الله عنه ، كذلك نرى سياسة التعاطف والاهتمام المتزايد وحسن المعاملة تجاه الموالي من المميزات الأخرى في عصر معاوية؛ فنجد معاوية رضي الله عنه استعان بكثير من الموالي في إدارة بعض شؤون الدولة: فعين مولاه عبد الله بن درّاج على خراج الكوفة ومعونتها في ولاية المغيرة بن شعبة. وكان وردان مولاه على خراج مصر في ولاية عتبة بن أبي سفيان ، وكان على حرسه رجل من الموالي يقال له: المختار، وقيل: رجل يقال له: مالك، وكان على حجابه سعد مولاه. وكان يلي أمواله بالحجاز أيضاً. وهو الذي قال فيه معاوية: أغبط الناس عيشاً مولاي سعد ، كان يتربع جدَّة ، ويتقيَّظ الطائف ، ويشتو بمكة. واتخذ زياد بن أبي سفيان من مهران مولاه ، حاجباً له وكاتبه على الخراج في العراق. وكان أبو المهاجر دينار مولى لمسلمة بن مخلد الأنصاري، فتولى له إدارة شؤون المغرب في سنة 55 هـ.
وبالرغم من هذه الأمثلة نجد أن عباس محمود العقاد يشير إلى أن معاوية كان لا يلتفت إلى الموالي ، وردّد ما سبقه إليه المستشرقون في طعنهم في تسامح معاوية رضي الله عنه مع الموالي ، رغم ما تزخر به المؤلفات العربية القديمة من أمثلة على هذا التسامح.
ومن ناحية أخرى: فقد ترك معاوية رضي الله عنه الإصلاحات الضرورية لعماله على الأقاليم ليقوم كل واحد منهم بواجبه تجاه الإقليم الذي يرى شؤونه ، وقد أصبح التقسيم الإداري للدولة في عهده كالاتي: دمشق عاصمة للدولة ، وقسم البلاد إلى ولايات يحكم كل ولاية منها وال من قبل الخليفة ، وكان لكلٍّ سلطة غير محدودة في الولاية التي يحكمها ، وفي بعض الأحيان أطلقت الدولة للوالي سلطة التصرف كما يشاء ، حتى كان بعضهم يقتل وينفي ، ويسجن ، ويشرد ، ... وقد لاحظنا أن هذا الحكم المطلق لم يتكرر ، بل كان دائماً محصوراً في ولاية العراق ، وذلك لما كان يحدث فيها من اضطرابات وفتن أكثر من غيرها ، وكان الخليفة يختار لهذه الولاية ولاة مشهورين بالحزم والشدة ، فكان زياد بن أبيه من أشهر ولاة معاوية ، أما بقية الولايات فكانت تحكم بطابع الدولة المألوف ، فالوالي مقيد بأوامر الخليفة ، لا يقضي إلا بعد رأيه ، ولا يفصل إلا بعد مشاورته ، وكان الوالي يرجع إلى الخليفة في كل ما يتصل بالمصالح العامة ، فإذا كان الأمر خاصاً بولايته له أن يتصرف فيه بحسب ما يحقق المصلحة العامة ، وإلا فهو مسؤول أمام الخليفة عن كل تصرفاته.
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022