السبت

1446-10-28

|

2025-4-26

من كتاب الدولة الأموية: عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1):

(أسباب ترشيح معاوية لابنه يزيد)

الحلقة: السابعة والستون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020


1 ـ الحفاظ على وحدة الأمة:
نظر معاوية رضي الله عنه إلى ابنه يزيد على أنه المرشح الذي سيحظى بتأييد أهل الشام الذين يمثلون العامل الأقوى في استقرار الدولة، وقد أبرز معاوية رضي الله عنه السبب الذي دعاه لاختيار ابنه يزيد، وذلك أثناء جمع التأييد له من كبار أبناء الصحابة أثناء رحلته الأخيرة للحج؛ إذ كان الدافع لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ عندما سارع في أخذ البيعة ليزيد هو خوفه من الاختلافالذي قد يطرأ على الأمة بعد موته، وربما تنخرط في قتال جديد لا يعلم سعته ومداه إلا الله عز وجل. كان معاوية يرهب أن يدع أمة محمد ﷺ كالضأن لا راعي له ، ولذلك عمل على اختيار من يخلفه، وكان الأولى بمعاوية رضي الله عنه.
أن يعين من أفاضل المجتمع الإسلامي رجالاً يجعلهم موضع شورى يختاروا من كان أهلاً للخلافة ويبتعد عن ترشيح ابنه يزيد، لأن اختيار يزيد لم يكن أماناً من الاختلاف والقتال وسفك الدماء، ولقد وقع المحظور بعد وفاة معاوية، وسفكت الدماء، ولم يزح اختيار معاوية يزيد ما تعلل به من المخاوف، ويبدو أنه وقع ما وقع بسبب شخصية يزيد، واتباع الوراثة بديلاً من الشورى في اختيار الخليفة، ولأسباب أخرى.
وعلى كل حال فمعاوية رضي الله عنه اجتهد ولم يكن مصيباً في تولية يزيد لولاية العهد، فقد كان بوسعه وقدراته السياسة الفائقة أن يطمئن في حياته على اجتماع كلمة المسلمين في أمر الخلافة من بعده باختيار واحد من قريش يشهد له الناس بحسن السيرة أكثر من يزيد ابنه، ويجتمع عليه أعيان المجتمع الإسلامي في الشام والعراق وبلاد الحجاز وغيرها.
2 ـ قوة العصبية القبلية:
خاض معاوية رضي الله عنه الحرب، وتولى الخلافة بنصرة من أهل الشام، وكانوا من أشد الناس طاعة لمعاوية رضي الله عنه، ومحبة لبني أمية، ومن الدلائل على تلك الطاعة والمحبة هو: أن معاوية رضي الله عنه لما عرض خلافة يزيد بن معاوية على أهل الشام وافقوا موافقة جماعية، ولم يتخلف منهم أحد، وبايعوا ليزيد بولاية العهد من بعد أبيه، ومن الدلائل على قوة العصبية في بلاد الشام لبني أمية أن مروان بن الحكم تمكن من الانتصار بأهل الشام على عمال عبد الله بن الزبير، ثم تبعه بعد ذلك ابنه عبد الملك بن مروان، حتى تمكن من الانتصار بأهل الشام على ابن الزبير وقتله سنة 73 هـ رضي الله عنه، ومع ذلك لم نجد أهل الشام انقادوا لابن الزبير، بل إن أهل العراق غدروا بأخيه مصعب بن الزبير ومالوا مع عبد الملك بن مروان؛ فلماذا لم تجتمع الأمة على ابن الزبير وهو في ذلك الحين لا يشاركه أحد في فضائله ومكانته؟ بل نجد العكس؛ نجد أن عبد الملك بن مروان الذي يعتبر في السن كأحد أبناء عبد الله بن الزبير، تمكن من تولي زعامة المسلمين.
فعصبية أهل الشام كانت سبباً مهماً في تولية يزيد، وليست عصبية بني أمية؛ فإن أسرة بني أمية لم تكن ذات تأثير كبير على الأحداث في مجيء معاوية رضي الله عنه إلى منصب الخلافة، وقد بنى ابن خلدون دفاعه عن صنيع معاوية في ولاية العهد: أن المصلحة تقتضي ذلك؛ حيث قال: والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد حينئذٍ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فاثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا؛ فعدالته وصحبته مانعة سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم من أجل ذلك.
وقال أيضاً: عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة، بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه. أي إن قوة عصبية بني أمية وسطوتهم، ونفورهم من الانقياد لغيرهم، جعلت معاوية رضي الله عنه يختار مرشحاً من بني أمية، فكان ابنه يزيد خوفاً منه على الأمة من الفرقة والاختلاف.
ومما لا شك فيه لو جاء معاوية برجل من ذوي الكفاءة من قريش غير ابنه يزيد، واستفتى ذوي الرأي والنهي بشأنه، ثم وقف وراءه بثقله الكامل وتأييده الصريح، وطلب من أهل الحل والعقد في الأمة مبايعته بولاية العهد، فهل كان يعترض أحد؟ طبعاً لا، ذلك لأن أمير المؤمنين هو الداعي، ولأن المرشح لولاية العهد رجل أريد بترشيحه مبايعته مصلحة الأمة والدولة مجردة من كل شبهة أو عاطفة؛ ألا ترى معي أن ذلك كان ممكناً وأنه كان محققاً للفرض القائل بأن القصد من ولاية العهد هو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، وتجنب الأمة أخطار التنازع والفتن من جديد؟! ولكن معاوية رضي الله عنه على كل حال اجتهد، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجر.
3 ـ محبة معاوية لابنه وقناعته به:
قال ابن كثير: وقد كان معاوية لمَّا صالح الحسن، عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما
مات الحسن قوي أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهل، وذاك من شدة محبة الوالد لولده، ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك، ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى.
وقال معاوية رضي الله عنه لعمرو بن حزم الأنصاري، الذي كان معارضاً للبيعة، فذكّر معاوية بالله، وطلب منه أن ينظر في عاقبة الأمور، فشكره معاوية وقال: إنك امرؤ ناصح. ثم أخذ معاوية يُبيّن له بصراحة أنه لم يبقَ إلا ابنه وأبناؤهم وابنه أحق من أبنائهم.
وكانت ليزيد بعض الصفات التي شجعت معاوية على جعله ولياً للعهد، قال الذهبي في ترجمة يزيد: كان قوياً شجاعاً، ذا رأي وحزم، وفطنة وفصاحة، وقال ابن كثير: وكان يزيد فيه خصال محمودة من الكرم، والحلم، والفصاحة، والشعر، والشجاعة، وحسن الرأي في الملك، ربما كانت هذه الصفات دافعة لمعاوية وكافية له ليكون صالحاً للخلافة.
ولا شك أن الصحابة وأبناءهم أفضل من يزيد وأصلح ولكن مع ذلك فإن معاوية ربما رأى في ولده مقدرة لا تكن لغيره في قيادة الأمة، بسبب عيشته المتواصلة مع أبيه، ومناصرة أهل الشام وولائهم الشديد له، ثم اطلاعه عن قرب على معطيات ومجريات السياسة في عصره، وقد أنس معاوية رضي الله عنه من ولده يزيد حرصاً على العدل وتأسياً بالخلفاء الراشدين، فقد كان يسأله عن الكيفية التي سيسير بها في الأمة، فيرد عليه يزيد بقوله: كنت والله يا أبتِ عاملاً فيهم عمل عمر بن الخطاب. وغير ذلك من الأسباب.
فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والاخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور، على الرجل الضعيف وإن كان أميناً. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها.
وسئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والاخر صالح ضعيف؛ مع أيهما يُغزى ؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، يُغزى مع القوي الفاجر.
ومعظم المقصود من نصب الأئمة حياطة المسلمين، ودفع عدوهم، والأخذ على يد ظالمهم، وإنصاف مظلومهم، وتأمين سبلهم، وتفريق بيت مالهم فيهم، على ما أوجبه الشرع، فمن كان ناهضاً بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة، ويطيب عيشهم، ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علماً منه، أو أوسع عبادة، أو أعظم ورعاً؛ فإنه إذا كان غير ناهض بالقيام بهذه الأمور، فلا يعود على المسلمين من علمه أو ورعه وعبادته فائدة، ولا ينفعهم كونه مريداً للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه. فقد كان معاوية رضي الله عنه يرى بولاية المفضول مع وجود الفاضل هذه أهم أسباب ترشيح معاوية رضي الله عنه لابنه.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022