من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات معاوية رضي الله عنه)
الحلقة: الثالثة والستون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
أولاً: أثر الآيات والأحاديث في نفوس المجاهدين:
كان للايات والأحاديث التي تتحدث عن فضل الجهاد أثرها في نفوس المجاهدين، فقد بيَّن المولى عز وجل أن حركات المجاهدين كلها يثاب عليها؛ قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۦۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ لَا يُصِيبُهُمۡ ظَمَأٞ وَلَا نَصَبٞ وَلَا مَخۡمَصَةٞ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَطَُٔونَ مَوۡطِئٗا يَغِيظُ ٱلۡكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنۡ عَدُوّٖ نَّيۡلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِۦ عَمَلٞ صَٰلِحٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ١٢٠وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةٗ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةٗ وَلَا يَقۡطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمۡ لِيَجۡزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحۡسَنَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢١}[سورة التوبة:121] .
وقد تعلموا أن الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج فيه؛ قال تعالى:{أَجَعَلۡتُمۡ سِقَايَةَ ٱلۡحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ كَمَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَجَٰهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ لَا يَسۡتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٢٠يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ ٢١خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ ٢٢}[سورة التوبة:19،20،21،22] .
واعتقدوا أن الجهاد فوز على كل حال؛ قال تعالى:{قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ وَنَحۡنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمۡ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٖ مِّنۡ عِندِهِۦٓ أَوۡ بِأَيۡدِينَاۖ فَتَرَبَّصُوٓاْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ٥٢}[سورة التوبة:52] ، وأن الشهيد لا تنقطع حياته بل هو حي؛ قال تعالى:{يَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلٖ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٧١}[سورة آل عمران:171] ، وكانوا يشعرون بسمو هدفهم الذي يقاتلون من أجله؛ قال تعالى:{فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٤وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ٧٥ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٧٦} [سورة النساء:76،75،74]
وقد بين الرسول ﷺ للمسلمين فضل الجهاد، فألهبت أحاديثه مشاعرهم وعواطفهم، وفجَّرت طاقاتهم؛ ومن هذه الأحاديث ما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله ﷺ: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله»، وقد بيَّن رسول الله ﷺ درجات المجاهدين، فقال: «إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله؛ ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة».
وقد وضح ﷺ فضل الشهداء وكرامتهم فقال: انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يُخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل». وقال ﷺ: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وما له على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة». وغير ذلك من الأحاديث.
وقد تأثر المسلمون الأوائل ومن سار على نهجهم بهذه الايات والأحاديث، فكان كبار الصحابة رضي الله عنهم يغزون وقد تقدم بهم العمر، فيشفق عليهم الناس وينصحونهم بالقعود عن الغزو، لأنهم معذورون، فيجيبونهم أن سورة التوبة تأبى عليهم القعود، ويخافون على أنفسهم من النفاق إذا ما تخلفوا عن الغزو. كما كان للعلماء والفقهاء والزهَّاد دور كبير في تربية الناس على هذه الايات والأحاديث، ومن هؤلاء العلماء كبار الصحابة كأبي أيوب الأنصاري، وابن عمر، وغيرهم ومن التابعين كأبي مسلم الخولاني، يرون أن الجهاد في سبيل الله ضرورة من ضرورات بقاء الأمة الإسلامية، فقاموا بهذه الفريضة في فتوحات بلاد الشام والشمال الإفريقي وخراسان وسجستان والسند، وترتب على قيامهم بهذه الفريضة ثمرات كثيرة؛ منها: تأهيل الأمة الإسلامية لقيادة البشرية، القضاء على شوكة الكفار وإذلالهم وإنزال الرعب في قلوبهم، ظهور صدق الدعوة للناس؛ الأمر الذي جعلهم يدخلون في دين الله أفواجاً، فيزداد المسلمون بذلك عزّاً والكفار ذُلاً، وتوحدت صفوف المسلمين ضد أعدائهم، وأسعدوا الناس بنور الإسلام وعدله ورحمته.
ثانياً: من سنن الله في فتوحات معاوية:
يلاحظ الباحث في دراسته للفتوحات في عهد معاوية بعض سنن الله في المجتمعات والشعوب والدول؛ ومن هذه السنن:
1 ـ سنة الله في الاتحاد والاجتماع:
كانت الفتنة التي أدت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه أكبر معوق أصاب حركة الفتوحات بعد الردة أيام أبي بكر رضي الله عنه، حيث أدى استشهاد عثمان إلى توقف الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنة كادت تعصف بالأمة الإسلامية لولا أن تداركتها رحمة الله سبحانه وتعالى بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنه، وقد امتلأت المصادر بالنصوص التي تبين أثر الفتنة في انحسار حركة الجهاد؛ ومن هذه الاثار:
ـ عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي بين معاوية وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج ـ يعني الثغور.
ـ ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي بإسناده قال: لما قتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية ولا صائفة حتى اجتمعت الأمة على معاوية.
ـ قول أبي بكر المالكي: فوقعت الفتنة.. واستشهد عثمان رضي الله عنه، وولِّي بعده علي رضي الله عنه، وبقيت إفريقية على حالها إلى ولاية معاوية رضي الله عنه، ولكن بعد الصلح وما ترتب عليه من الاتحاد والاجتماع عادت حركة الفتوحات إلى ما كانت عليه، وأصبحت في عهد معاوية على ثلاث جبهات كما مر معنا.
إن الاتحاد والاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله مقصد من مقاصد الشريعة، وهذا المقصد من أهم أسباب التمكين لدين الله واستمرار حركة الفتوحات، فالأخذ بالأسباب نحو تأليف قلوب المسلمين، وتوحيد صفهم من أعظم الجهاد، لأن هذه الخطوة مهمة جداً في إعزاز المسلمين، وإقامة دولتهم، وتحكيم شرع ربهم؛ فحركة الفتوحات بين الانطلاق والتوقف مرهونة بتحقيق سنة الاتفاق والاتحاد والاجتماع ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق؛ قال تعالى: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا }.
2 ـ سنة الأخذ بالأسباب:
قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٦٠} [سورة الأنفال:60]. وقد قام معاوية رضي الله عنه بالعمل بهذه الآية، وحث ولاته على العمل بها، ويظهر أخذ معاوية رضي الله عنه بسنة الأخذ بالأسباب، في اهتمامه ببناء الأسطول البحري وتطويره، وتقوية الجيش، والقضاء على الفتن الداخلية، ودعم الثغور، وأماكن الرباط، والتخطيط الاستراتيجي للدولة في سياستها الداخلية والخارجية، والتكتيك العسكري في نظام المعسكرات ونظام الرباط والثغور، والصوائف والشواتي، وبناء الحصون، ونظام التعبئة، وتوطين القبائل، لنشر الإسلام وتثبيت الفتوحات والتصدي لحركات التمرد، فبعدما زال خطر الهجوم العسكري من الفرس قام بتوطين عشرات الألوف من الأسر العربية في الجناح الشرقي من الدولة، خاصة خراسان، وقد نجحت هذه السياسة واتت ثمارها في هذا الجناح.
3 ـ سنة التدافع:
قال تعالى: {فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ } [سورة البقرة:251]. وقد تحققت هذه السنة في حركة الفتوحات عموما، وسنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه وخلقه، وهي من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للأمة الإسلامية، وقد استوعب المسلمون الأوائل هذه السنة وعملوا بها، وعلموا: أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به وقلوب تحنو عليه وأعصاب ترتبط به... إنه يحتاج إلى جهد بشري، لأن هذه سنة الله في الحياة الدنيا وهي ماضية
4 ـ سنة الابتلاء:
قال تعالى:{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤} [سورة البقرة:214] وقد وقع البلاء في حصار القسطنطينية وتعرض الكثير من المسلمين للقتل، وفي فتوحات الشمال الإفريقي واستشهاد القادة كعقبة بن نافع وأبي المهاجر دينار، وغيرهم، فهذه سنة الله في العقائد والدعوات فلا بد من الأذى في الأموال والأنفس، ولا بد من صبر، واعتزام.
5 ـ سنة الله في الظلم والظالمين:
قال تعالى:{ ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّهُۥ عَلَيۡكَۖ مِنۡهَا قَآئِمٞ وَحَصِيدٞ ١٠٠وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡۖ فَمَآ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ لَّمَّا جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ ١٠١وَكَذَٰلِكَ أَخۡذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلۡقُرَىٰ وَهِيَ ظَٰلِمَةٌۚ إِنَّ أَخۡذَهُۥٓ أَلِيمٞ شَدِيدٌ ١٠٢ } [سورة هود:102] . وسنة الله مطردة في هلاك الأمم الظالمة، وقد مارست الدولة الفارسية الظلم على رعاياها وتمردت على منهج الله، فمضت فيها سنة الله، وسلط الله عليها المسلمين فأزالوها من الوجود، وكذلك نفوذ الدولة البيزنطية من الشام ومصر، وتزعزع وجودها في الشمال الإفريقي، وما جاء عهد الوليد بن عبد الملك حتى زال نفوذها من الشمال الإفريقي كلياً.
6 ـ سنة الله في المترفين:
قال تعالى: {وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا ١٦} [سورة الإسراء:16] وجاء في تفسيرها: وإذا دنا وقت هلاكها أمرنا بالطاعة مترفيها، أي: متنعميها وجبّاريها وملوكها، ففسقوا فيها فحق عليها القول فأهلكها، وإنما خص الله المترفين بالذكر مع توجه الأمر بالطاعة إلى الجميع، لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم إنما وقع باتباعهم وإغوائهم، فكان توجه الأمر إليهم آكد، وقد مضت هذه السنة في زعماء الفرس وأئمتهم في بلاد فارس وزعماء الروم في الشام ومصر والشمال الإفريقي.
7ـ سنة الله في الطغيان والطغاة:
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلۡمِرۡصَادِ }[سورة الفجر:14] والآية وعيد للعصاة مطلقاً، وقيل: وعيد للعصاة ووعيد لغيرهم. وفي تفسير القرطبي: أي يرصد كل إنسان حتى به.
وواضح من أقوال المفسرين في الايات التي ذكرناها في الفقرة السابقة أن سنة الله في الطغاة إنزال العقاب بهم في الدنيا، فهي سنة ماضية لا تتخلَّف جرت على الطغاة السابقين وستجري على الحاضرين والقادمين، فلن يفلت منهم أحد من عقاب الله.
وسنة الله في الطغاة وما ينزله الله بهم من عقاب في الدنيا، إنما يعتبر بها من يخشى الله جلّ جلاله ويخاف عقابه ويعلم أن سنة الله قانون ثابت لا يحابي أحداً، قال تعالى في بيان المعتبرين بسنته في الطغاة ـ بعد أن ذكر ما حلّ بفرعون من سوء عقاب ـ:{فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰٓ ٢٥ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰٓ ٢٦} [سورة النازعات:26] ، فهؤلاء الطغاة من زعماء الفرس، وزعماء الروم في مصر والشام والعراق مضت فيهم سنة الله.
8 ـ سنة التدرج:
خضعت الفتوحات الإسلامية لسنة التدرج، ويعتبر الحصار الأول والثاني للقسطنطينية مرحلة مبكرة لفتح القسطنطينية على عهد السلطان العثماني محمد الفاتح، فالأعمال التي قام بها المسلمون ضد الدولة البيزنطية قبل محمد الفاتح ساهمت في عمل تراكمي توّج بفتح القسطنطينية في عهد العثمانيين.
9ـ سنة الله في الذنوب والسيئات:
قال تعالى:{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ } [سورة الأنعام:6]
وقد أهلك الله تعالى أمة الفرس بسبب ذنوبهم التي اقترفوها وأزال ملك الروم من مصر والشام وليبيا بسببها، وفي هذه الاية حقيقة ثابتة وسنة مطردة: أن الذنوب والمعاصي تهلك أصحابها، وأن الله تعالى هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم، وقد سلط الله أمة الإسلام على الفرس والروم عندما حققت شروط التمكين وعملت بسننه وأخذت بأسبابه وحققت أهدافه.
10ـ سنة تغيير النفوس:
قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ }[سورة الرعد:11]
وقد قام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون لهم بإحسان في فتوحات الشام ومصر والشمال الإفريقي وبلاد المشرق، بالعمل بهذه السنة الربانية مع الشعوب التي أرادت أن تدخل في دين الله؛ فشرعوا في تربية الناس على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فغرسوا في نفوسهم العقائد الصحيحة، والأفكار السليمة، والأخلاق الرفيعة.
ثالثاً: التخطيط الاستراتيجي للفتوحات عند معاوية رضي الله عنه:
خضعت الفتوحات في عهد معاوية للتخطيط الدقيق والمحكم، فقد كانت سياسته في الفتوحات كالآتي:
1ـ سياسته تجاه الروم:
فقد سلك الخطوات التالية:
أ ـ التركيز على عمليات الصوائف والشواتي، من أجل تحقيق عدة أهداف منها:
ـ استنزاف قوة الروم.
ـ انتزاع زمام المبادرة من الروم، وجعلهم في حالة دفاع مستمر.
ـ إرغام الروم على توزيع قواتهم بحيث لا يستطيعون القيام بهجمات حاسمة وقوية ضد الدولة الإسلامية.
ب ـ مهاجمة الروم في عقر دارهم ومحاصرة عاصمتهم، وما يترتب على ذلك من إضعاف معنوياتهم، وقذف الرعب في قلوبهم.
جـ. تقليص النفوذ البحري للروم عن طريق فتح الجزر الواقعة في بحر الشام، وما يترتب على ذلك من حرمان سفن الروم من قواعدها البحرية الهامة.
2 ـ سياسته في جبهة الشمال الإفريقي:
أ ـ أولى معاوية رضي الله عنه جبهة المغرب اهتماماً خاصاً تمثل بارتباط هذه الجبهة به شخصياً، حيث كان معاوية رضي الله عنه المرجع المباشر لقادة هذه الجبهة إلى سنة 47 هـ، وهي السنة التي ضُمت فيها جبهة المغرب إلى والي مصر.
ب ـ عمل معاوية رضي الله عنه على إقامة قاعدة جهادية متقدمة في قلب بلاد المغرب، وقد قام عقبة بن نافع ببناء القيروان لكي تكون عزّاً للإسلام والمسلمين.
3 ـ سياسته في جبهة سجستان وخراسان وما وراء النهر:
أ ـ استعانة معاوية رضي الله عنه بفاتح سجستان وخراسان أيام عثمان رضي الله عنه، وهو عبد الله بن عامر رضي الله عنه، وتكليفه بإعادة فتحها مرة أخرى.
ب ـ العمل على تثبيت الحكم الإسلامي، ونشر دعوة الإسلام في هذه المنطقة؛ عن طريق إسكان خمسين ألف من العرب بعيالهم في خراسان.
رابعاً: الشورى في إدارة حركة الفتوحات:
عند انتقال الخلافة إلى معاوية رضي الله عنه كان مجلس الشورى لديه يتألف من كبار أعيان عصره وولاته ومعاونيه الذين يتصفون بالبلاغة والسياسة وحسن التدبير في أمور الإدارة العسكرية، وكان من هؤلاء عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي كان مشهوراً بالصفات السابقة، مما جعل الخليفة معاوية يعتمد عليه كالوزير المدبِّر لدولته والمشير، ومنهم أيضاً: زياد بن أبيه.
ولم تكن الوزارة في عهـد بني أميـة مقننة القواعد ولا مقررة القوانين، وكان ذوو الاراء من مستشاري الخليفة يقومون مقام الوزراء، وكان الواحد منهم يسمى كاتباً أو مشيراً، إضافة إلى ذلك كان الخليفة معاوية يعتمد في إدارته العسكرية على مشورة قادة وأمراء القبائل وخصوصاً التي بالشـام، فقد كان يقربهم ويدنـي مجلسهم ويستشيرهم، وسار قادة معاويـة بن أبي سفيان سيرتـه بمبدأ المشورة في إدارتهم العسكرية للمعارك الحربي.
خامساً: مركزية القيادة والإمداد في إدارة معاوية:
عندما انتقلت الخلافة إلى بني أمية أصبحت دمشق مقرَّ الخلافة ومركز القيادة العليا للإدارة العسكرية، فكان الخليفة بها هو الذي يقرر السياسة الحربية، كما كان مسؤولاً عن الحرب والسلم، فكان التنظيم الإداري العام للجيش أمراً من الأمور المركزية التي يشرف الخليفة مباشرة عليها، وذلك بالرغم من وجود عمال الولايات والأقاليم الذين كان لهم مطلق السلطات، والتي منها: قيادة الجيوش بأنفسهم أو تعيين القادة المناسبين من قبلهم، ووضع الخطط لهم وإمدادهم وتموينهم، ومن أمثلة هؤلاء: زياد بن أبيه وابنه عبيد الله.
فمن مركزية القيادة لإدارة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في تعيين القادة: أنه كتب إلى واليه بالبصرة زياد بن أبيه يأمره أن يوجه إلى خراسان رجلاً يقوم بأمرها، فولى زياد الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه، وكتب له عهده على خراسان وولاه حربها وخراجها، وسار إليها بمن يريد الجهاد في سبيل الله، من المتطوعة من أهل البصرة، إضافة إلى الجند النظامي أصحاب الديوان، فوضع لهم الأرزاق، وأعطاهم وقواهم وسار لما أمر به. ومن مركزية القيادة العليا في إدارة معاوية العسكرية تسيير الجيوش والإمدادات العسكرية لها، فنرى القائد علقمة بن يزيد الغطيفي كتب إليه قائلاً: إنك خلفتني بالإسكندرية وليس معي إلا اثنا عشر ألفاً ما يكاد بعضنا يرى بعضاً من القلة، فكتب إليه الخليفة معاوية: إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة الاف من أهل المدينة، وأمرت معن بن يزيد السلمي أن يكون بالرملة في أربعة الاف ممسكين بأعنة خيولهم؛ متى يبلغهم عنك فزع يعبروا إليك.
سادساً: الألوية والرايات:
حين انتقلت الخلافة إلى معاوية تعددت الألوية والرايات في إدارته العسكرية، كما تعددت ألوانها كاللون الأخضر والأحمر والأبيض، بالرغم من اتخاذهم اللون الأبيض شعاراً ورمزاً لخلافتهم، فمنذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لا نرى جيشاً يخرج ويسير نحو العدو إلا ويعقد لقائده لواء أو راية تكون لهم شعاراً ورمزاً يسيرون خلفها ويذودون عنها، فنرى الواحد يصرع تلو الاخر وكل همه بقاءها منصوبة، وكان القادة من الشجاعة والإقدام ما جعلهم يكونون أكفاء لحمل هذه الراية؛ مثل: عقبة بن نافع، والحكم بن عمرو الغفاري، وفضالة بن عبيد الله، وقد جعل والي العراق من قبل الخليفة معاوية زياد بن أبيه خروج القبائل على الرايات، ويبدو أن الغاية من ذلك معرفة مدى جدية كل منها في القتال والتزامها بالأوامر.
سابعاً: اهتمامه بالعيون والبريد:
كان اهتمام معاوية رضي الله عنه بأمر المخابرات وجمع المعلومات على الأعداء قديماً منذ كان أميراً على بلاد الشام، وتطور جهاز المخابرات لما تولى الخلافة، وزاد اهتمامه به، ففي عهده أسر رجل من المسلمين بالقسطنطينية وأهين ببلاطهم؛ فاستغاث: وا معاوياه ! لقد أغفلت أمورنا وأضعتنا، فوصل الخبر إليه عن طريق جواسيسه المتواجدين بأرض الروم، فقام بفدائه وبأسر من أهانه، وجعل المسلم يقتص منه بمثل ما أهانه وأن لا يزيد، وهذا دليل على مدى دقة نظام المخابرات في إدارته. ولقد ذكرت القصة فيما مضى بالتفصيل.
كما قام الخليفة رضي الله عنه بفرض رقابة دقيقة ومحكمة على أفراد الحاميات وأسرهم، وعين موظفاً في كل حامية ليتحرى عن الداخلين والخارجين حتى لا يتسلل عين للعدو إلى أرض المسلمين، فتعرفوا على مواقع معسكراتهم ونقاط الضعف بها إن وجدت.
وفي إدارته أنشأ ديوان البريد واعتنى به عناية فائقة، وذلك لتسرع إليه أخبار البلاد من جميع أطرافها بما في ذلك أخبار الثغور، ولم يكن للبريد ديوان قبل ذلك.
وأما علاقة صاحب البريد بالإدارة العسكرية فقد كان عبارة عن عين الخليفة الباصرة وأذنه السامعة ينقل إليه أخبار عماله وقادته وسائر رجال دولته، فكان له عيون يوافونه بكل جديد، كما كان البريد واسطة بين الولاة والخلفاء والقادة لنقل الأوامر العسكرية، وكان أصحاب البريد رقباء ومفتشين من قبل الدولة؛ يرفعون التقارير عن أحوال الجند في مختلف حالات القتال وفي كل الظروف والأوقات، ويخبرونه بحال المال والعطاء، وذلك أنه يوكل بمجلس عرض الأولياء وأعطياتهم من يراعيه ويطالع ما يجري فيه ويكتب بما يقف عليه من الحال في وقته.
إضافة إلى ذلك كان من واجبات صاحب البريد مساعدة الإدارة العسكرية في التموين والإمداد، وحفظ الطرق وصيانتها من الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر، وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف فيقوم بتوصيلها بوجه السرعة من اختصار للطرق واختيار المراكب لمعرفته بالطرق والمسالك إلى جميع النواحي، وكان الخليفة يجد عنده ما يحتاج إليه من المعرفة عند إنفاذ جيش وغيره وقت الحاجة، إلى ما هنالك من مهام قام البريد بتأديتها في الإدارة العسكرية.
على الجملة كان يقال للبريد: جناح المسلمين؛ لما كان يطير به من الأخبار.
ثامناً: اهتمام معاوية بالحدود البرية للدولة:
حين انتقلت الخلافة إلى معاوية زاد الاهتمام والاعتناء بهذه التحصينات لحماية الحدود الإسلامية، وبخاصة إذا علمنا أن المؤسس الأوَّل للدولة الأموية معاوية رضي الله عنه قد قام بتولي حملات الصوائف والشواتي بنفسه حين كان قائداً ووالياً للخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما، كما أُسند إليه في خلافتيهما إنشاء وترميم بعض الحصون الدفاعية على الحدود الإسلامية كما سبق وأشرنا، مما جعله ملمّاً بهذه الثغور والتحصينات، فاستكمل ما بدأه حين استقرت بيده الخلافة، فقام ببناء وتحصين مرعش والحدث من ثغور الجزيرة وأسكنهما الجند وكان يتعهدهما باستمرار.
واتخذ معاوية رضي الله عنه لتحصين المدن الساحلية سياسة التهجير أو النواقل بنقل قوم من فرس وبعلبك وحمص وإنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها، ونقل من الزط وأساورة البصرة والكوفة وفرس وبعلبك وحمص إلى ثغر إنطاكية، وولى القائد عبد العزيز بن حاتم الباهلي أرمينية وأذربيجان، فبنى مدينة دبيل، وعمل عدة تحصينات دفاعية، كما بنى مدينة النشوي،
ورقم مدينة برذعة، وجدد بناء البيلقان، إلى ما هنالك من تحصينات دفاعية قام بإنشائها.
كما قلد الوالي زياد بن أبيه القائد الربيع بن زياد الحارثي ثغر خراسان، وأرسل معه من المصرين (الكوفة ـ البصرة) زهاء خمسين ألفاً من الجند بعيالاتهم، وأسكنهم ما دون النهر لحماية حدود الدولة الإسلامية هنالك، ويظهر لنا اهتمام زياد بأمر الثغور في قوله لحاجبه: وليتك حجابتي، وعزلتك عن أربع؛ وذكر منها: ورسول صاحب ثغر؛ فإنه إن
أبطأ ساعة أفسد عمل سنة، فأدخلْه عليَّ وإن كنتُ في لحافي، وسأل زياد جلساءه عن أنعم الناس عيشاً؟ فأجابوه قائلين: أنت أيها الأمير ! فقال: فأين ما يرد عليَّ من الثغور والخراج ؟! وهذا يبين مدى ما كان يلقاه زياد من عناء الثغور في إدارتها والإشراف على أمرها لحفظها وسدها. ومما أثر عن زياد أيضاً قوله: أربعة أعمال لا يليها إلا المسن الذي عض على ناجذه: الثغر والصائفة والشرط والقضاء.
وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه في إدارته لثغر مصر من قبل معاوية لا يحمل له من الخراج إلا الشيء اليسير، وينفق جل الأموال على التحصينات وعطاء الجند المرابطين بالثغر.
واهتم معاوية بأمر الصوائف والشواتي؛ حيث كانت تخرج في كل عام في وقتها المحدد لها لأداء مهمتها المنوطة بها، وكان يختار لها كبار القواد والأمراء، وكانوا يتمنون إدارتها، ويعدون ذلك شرفاً وفخراً لهم؛ فمن ذلك قول الخليفة معاوية لابنه يزيد: يا بني ! إن أمير المؤمنين قد بسط أملك فاذكر حاجتك، فطلب منه مطالب كان أولها قوله: يجعل أمير المؤمنين غزو الصائفة العام إليّ لأفتح أمري بتجهيز الجيوش في سبيل الله.
ومن أبرز الولاة والقادة الذين تولوا إدارة حملات الصوائف والشواتي في عهد معاوية لعدة مرات هم: سفيان بن عوف الغامدي الأزدي، ومالك بن هبيرة السكوني، وكان أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه قبل أن يعين القادة على هذه الحملات يجري لهم اختباراً لمعرفة مدى حصافة القائد الإدارية، ومن الذين كان يعتمد عليهم من قادته سفيان بن عوف الغامدي لخبرته الإدارية، وقد توفي وهو بالصائفة يدير أعمالها، وحين بلغ الخبر معاوية تأثَّر وكتب إلى أمصار وأجناد المسلمين ينعاه، وكان معاوية إذا رأى خللاً في الصوائف قال: واسفياناه ولا سفيان لي ! وكان معاوية رضي الله عنه لا يقصر في اتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لحماية حدود وأراضي الدولة الإسلامية والدفاع عنها.
تاسعاً: اهتمام معاوية بالأسطول والحدود البحرية:
عندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية رضي الله عنه ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية؛ بإقامة المراكب للغزو، إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشات بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين، فجُمعوا ورتبهم في السواحل الشامية، وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا، وكما هو معلوم أن بلاد الشام غنية بالأخشاب التي تعتبر من أجزاء السفن الأساسية يومئذ، كما أنشأ الخليفة معاوية أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54 هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وكان مقرها بجزيرة الروضة؛ لذا عرفت باسم صناعة الروضة.
وكان قادة بحرية الخليفة معاوية ذوي خبرة وفن ببناء السفن الحربية؛ فقد كلف أحدهم بمهمة عسكرية نحو الروم، وطلب منه قائلاً: أنشأى مركباً يكون له مجاديف في جوفه واستعمله للسفر إلى بلاد الروم، أي: بعمل فتحات جانبية للمجاديف، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية رضي الله عنه نحواً من ألف وسبعمئة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية.
وبذلك نجد أن معاوية رضي الله عنه قد أدرك بصائب رأيه أن سواحل الشام ومصر لا ينجيها من غزوات الروم إلا إيجاد هذا الأسطول الإسلامي الذي يحافظ على الحدود البحرية، ويغزو سواحل الروم الحين بعد الحين حتى يرتدع العدو ويحسب لهم ألف حساب.
وأخذ الأسطول الإسلامي في عهد معاوية في فتح الجزر الواقعة بالبحر المتوسط الواحدة تلو الأخرى، والتي منها: جزيرة رودس، بقيادة القائد جنادة بن أمية الزهراني الأزدي، حيث فتحها ـ كما مر معنا ـ عنوة، وكانت غيضة في البحر وهي من أخصب الجزائر بالمنطقة، وأنزلها قوماً من المسلمين بأمر الإدارة العليا المركزية، واتخذ بها حصناً وناطوراً يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد، وكان المسلمون بها على جزر من الروم، وكان الخليفة معاوية يعاقب بين الجند فيها، ولم يجمرهم، وأدرَّ عليهم الأرزاق والعطاء، وكان الجند المقيمون بها أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر ويأخذون سفنهم، وقد خافهم العدو.
واستمر معاوية في فتح الجزر وشحنها بالجند المرابطين، وأصبحت قواعد بحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية.
وأخذت حملات الصوائف والشواتي البحرية تجوب البحر وتمخر في عبابه في عهد معاوية رضي الله عنه، وتسير جنباً إلى جنب مع شقيقتها الحملات البرية؛ حيث كانت تخرج من مصر والشام لتحمي سواحل المنطقة البحرية، وتولى قيادتها كبار القادة المشهورين كالقائد يزيد بن شجرة الرهاوي، وموسى بن نصير، وبسر بن أبي أرطأة العامري، وجنادة بن أمية الزهراني، وعقبة بن عامر وغيرهم من القادة، وسار خلفاء بني أمية من بعد الخليفة معاوية على سنته، وأصبح الأسطول الإسلامي في نمو مطرد، وأكثروا من إنشاء سفنه، وتفننوا في إتقانه، وجهزوه بالأدوات والمعدات الملاحية والقتالية، ورتبوا عليه الجند والقواد، وزودوه بالتموين اللازم والأرزاق، وظلت صوائفه وشواتيه تقلق الروم في كل عام وتهدد سواحلهم وحدودهم البحرية.
عاشراً: الاهتمام بديوان الجند والعطاء:
استمر ديوان الجند في أداء مهامه المناطة به، وحدث به تطور بسبب كثرة الفتوحات واتساع رقعة الدولة الإسلامية؛ فقد أصبح ديوان الجند مؤسسة كبيرة حظيت باهتمام الخلفاء وولاتهم، ومر بعدة مراحل تطويرية خلال هذه الفترة، فعندما تولى معاوية رضي الله عنه الخلافة تقاعس بعض الجند عن الحرب في بداية إدارته العسكرية إثر الفتن والصراعات الداخلية، فتمكن بحسن إدارته ودهائه بالإغلاق عليهم في العطاء، حتى تمكن من إلزامهم مرة أخرى بالجندية وتأليف القلوب، وقرب إليه زعماء القبائل.
وقد بلغ عدد الجند النظامي الذين يستلمون العطاء في بداية العصر الأموي نحواً من ثمانين ألف جندي بالبصرة، وستين ألفاً بالكوفة، وأربعين ألفاً بمصر، وبالشام نحو من ذلك، هذا سوى من في باقي الأقاليم الأخرى من جند؛ كفارس وما وراء النهر وغيرهما من الأقاليم وأمصار الدولة الإسلامية، كما كان بالكوفة من أبناء العجم زهاء عشرين ألف رجل فُرض لهم وكانوا يسمون الحمراء، وبالبصرة زهاء ألفي رجل من سبي بخارى كلهم جيد الرمي بالنشاب؛ فقد ألحقهم الخليفة معاوية بالخدمة العسكرية، وفرض لهم العطاء، وقد ولي كتابة الجند في إدارة الخليفة معاوية المركزية بدمشق عمرو بن سعيد بن العاص، هذا بالإضافة إلى دواوين الجند المحلية بالأقاليم الإسلامية المحلية الأخرى التي تتحمل مهام الإدارة العسكرية المحلية.
وظل دور العرفاء والنقباء سائراً ومستمراً كما كان في السابق، وذلك لاعتماد الإدارة عليهم في الشؤون العسكرية والمالية، وبخاصة في توزيع العطاء على الجند، فقد كان الخليفة معاوية يدفع إلى العرفاء العطاء، وكان لكل قبيلة عريف يأخذ أعطياتهم ويدفعها إليهم، هذا مع ما يقومون به من التعرف على أحوال الجند وأخبارهم، ورفع التقارير عنهم للإدارة العليا.
وقد طور زياد الهيكل التنظيمي العسكري للعرفاء، فجعل الناس في البصرة أخماساً، وجعل على كل خمس رجلاً، كما جعل في الكوفة أرباعاً على قيادة عشرة جنود في القتال، بل أصبحوا مسؤولين عن النواحي الأمنية ومثيري الشغب والفتن والقلاقل داخل قبائلهم ومعسكراتهم، فكانوا حلقة الاتصال في الإدارة العسكرية بين القبائل العربية في الأمصار الإسلامية وبين السلطات الإدارية للدولة فيما يختص بتثبيت أسماء الجند في الدواوين وتوزيع العطاء عليهم واستدعائهم عند الحاجة، وقد حل أولئك العرفاء في القوة والنفوذ محل رؤساء القبائل والعشائر، وكان اختيارهم يتم من بين ذوي النفوذ ليستطيعوا أداء واجباتهم تجاه الإدارة العسكرية، ومثال على ذلك ما قام به زياد؛ حيث خطب في أهل البصرة وهددهم بقطع العطاء إذا لم يكفوه الخوارج؛ حيث قال: يا أهل البصرة والله لتكفني هؤلاء أو لأبدأنّ بكم، والله لئن أفلت منهم رجل لا تأخذون العام من عطائكم درهماً، فثار الناس بهم فقتلوهم. كما استخدمت الزيادة في العطاء للقادة والجند المتجاوبين والمنفذين للأوامر تشجيعاً وحثّاً لهم على المضي قدماً في مهامهم ومناصبهم العسكرية المسؤولين عنها، كما فعل معاوية مع أشراف أهل الشام.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com