من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(العلاقات السلمية بين الدولتين الأموية والبيزنطية)
الحلقة: الخامسة والخمسون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
:رغم أن الطابع العام الذي ميَّز العلاقات بين الدولة الإسلامية والبيزنطية في عصر الخلافة الراشدة والعصر الأموي كان عسكرياً نتيجة لحركة الجهاد واستمرارها في العهد الأموي من حملات الصوائف والشواتي طوال السنة تقريباً، وكذلك الدور الجهادي الذي كانت تؤديه مدن الثغور، إلا أن هذا لا يعني أن الطابع السلمي المتمثل فيما جرى من مفاوضات ومداولات كان مفقوداً؛ فقد اتخذت العلاقات السلمية بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية في العهد الأموي أشكالاً مختلفة؛ منها: المراسلات، وتبادل الخبرات، والمناظرات في المجالات الثقافية، وتبادل الأسرى والسفراء.
1ـ المراسلات:
فقد تم مراسلة قيصر الروم من قبل معاوية في فترة الفتنة، وتوصل معه إلى عقد صلح على أن يؤدي معاوية له مالاً، وأن يأخذ كل طرف رهناً من الطرف الاخر، وارتهن معاوية منهم رهنـاء فوضعهم ببعلبك، ثم إن الروم غدرت؛ فلم يستحل معاوية والمسلمون قتل من في أيديهم من الرهائن، وخلوا سبيلهم وقالوا: وفاء بغدر خير من غدر بغدر.
والمهم أن مثل هـذه الحوادث يجب أن تُقدَّر بقدرهـا؛ فلا يجوز للدولـة الإسلامية ـ في الأصل ـ أن تتهاون وتتكاسل عن الأخذ بأسباب القوة حتى تصل إلى مرحلة من الضعف تمكّن الأعداء منهـا أو يطمع فيها الطامعون، بل الأصل في دولة الإسلام أن تكون دولة قوية يهابهـا الأعداء، فإذا مرت بها فتـرة ضعف أو احتاجت إلى دفع ضرر عليها بمال أو نحوه؛ فذلك يدخل من باب (الضرورات) وليس حكماً عاماً، وما أبيح للضرورة يُقدّر بقدرها، كما قرر الفقهاء، فلا ينبغي عقد صلح دائم مع العدو بدفع المال إليه، بل يجب أن يكون الصلح والدفع لفترة ضعف المسلمين أو حالة الضرورة، مع العمل الجاد على رفع حالة الضعف وبناء قوة الأمة وقدراتها المطلوبة بكل جدية وعزم، فإذا زالت يجب على المسلمين أن يمتنعوا من عقد أية معاهدة فيها ذلة أو مفسدة لهم.
والخلاصة: إنه يجوز للدولة الإسلامية عقد معاهدة اضطرارية تُقدّر بقدرها، وتنتهي بانتهاء حالة الضرورة التي عُقدت من أجلها.
لم تقتصر المراسلات على الجانب العسكري فقط، ولكن رويت بعض المراسلات التي تتناول المناظرة في الجوانب العلمية والأمور العامة، فقد كتب قيصر الروم إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فأنبئني بأحب كلمة إلى الله وثانية وثالثة ورابعة وخامسة، وعن أربعة أشياء فيهن روح ولم يرتكضن في رحم، وعن قبر يسير بصاحبه، ومكان في الأرض لم تصبه الشمس إلا مرة واحدة، وغير ذلك من الأسئلة، فكتب إليه معاوية: أما أحب كلمة إلى الله: فلا إله إلا الله لا يقبل عملاً إلا بها، وهي المنجية، والثانية: سبحان الله صلاة الخلق، والثالثة: الحمد لله كلمة الشكر، والرابعة: الله أكبر، فواتح الصلوات والركوع والسجود، والخامسة: لا حول ولا قوة إلا بالله. والأربعة فيهن روح ولم يرتكضن في رحم: فادم، وحواء، وعصا موسى، والكبش، والموضع الذي لم تصله شمس إلا مرة واحدة، فالبحر حين انفلق لموسى وبني إسرائيل، والقبر الذي سار بصاحبه، فبطن الحوت الذي كان فيه يونس.
2 ـ تبادل الخبرات:
وفي مجال تبادل الخبرات حاول كل من العرب والروم الاستفادة من خبرات الطرف الثاني في مجالات الحياة كافة، معتمدين على الاقتباس تارة، والإبداع تارة أخرى، على أن ما أخذه المسلمون من الروم في هذا المجال لم يكن مجرد اقتباس، بل طور كثيراً بأن أضيف إليه أحياناً وشذب في أحيان أخرى، حتى أصبح يتماشى مع روح الدين الإسلامي، ويتمثل ذلك في معالم النهضة العمرانية المتمثلة في اهتمام الأمويين بالمساجد والتوسع في إقامتها.
وقد استخدم معاوية عدداً من الروم ممن كانوا في الإدارة البيزنطية في بلاد الشام قبل فتحها، كتّاباً في الأمور الإدارية، حيث عيَّن سرجون بن منصور الرومي كاتباً له، كما استخدم ابن أثال النصراني طبيباً له، وكان معاوية رضي الله عنه متسامحاً مع النصارى حتى شهد له بروكلمان بهذا التسامح: واختلطوا بالمسيحية اختلاطاً بعيداً... وفي بلاط معاوية لعب سرجون بن منصور النصراني دور المستشار المالي المتنفذ، وحفظ النصارى للخليفة معاوية هذا التسامح وأخلصوا له، وأعظموه إعظاماً، لاتزال تقع عليه في الروايات النصرانية، وحتى في كتب التاريخ الإسبانية.
3 ـ تأثر الدولة البيزنطية بالتسامح الإسلامي:
يذكر العدوي: أن انعكاس التسامح الديني مع النصارى ظهر تأثيره على الدولة البيزنطية، إذ من المعروف: أنها كانت تضطهد رعاياها من أصحاب المذاهب الأخرى، وتعاملهم معاملة قاسية، وتعتبرهم هراطقة، وبظهور دولة الإسلام ودخول كثير من المسيحيين في التبعية لها، اتجهت الإمبراطورية البيزنطية إلى تجديد أساليبها وسياستها، وجعلت من نفسها صاحبة الحق في رعاية المسيحيين في بلاد الشام.
وكان معاوية رضي الله عنه يجلس إلى جماعات المسيحيين من المذاهب المختلفة ويستمع إلى جدلهم الديني ومناقشاتهم المختلفة، وبهذا ضربت الدولة الإسلامية الأموية مثلاً سامياً، يدل على عظمة الرسالة الإسلامية، ومدى التسامح الديني تجاه رعاياها من غير المسلمين، وابتعادها عن التعنت والتعصب الديني الذي يتهمهم به قسم من المستشرقين.
4 ـ آداب السفراء:
لم يكن نظام الموفدين والسفراء مقتصراً على العهد الأموي، بل له امتداداته من عهد رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين، فكان السفير يختار وفق مواصفات خاصة تتمثل في قوة شخصيته ونباهته ورجاحة عقله، وكان السفير من كلتا الدولتين، يزوَّد بخطاب يحمل تعريفاً بشخصية الرسول والغرض من رسالته وتخويله حق التحدث رسمياً باسم دولته.
ولم يكن الموفدون والسفراء مدار اهتمام الدولة الإسلامية الأموية فقط، بل اهتم الروم كذلك بسفرائهم أيضاً، فكانوا يختارونهم من رجال الدين الدهاة العارفين بأمور دينهم، وأصحاب قدرة على النقاش والجدال، فصيحي اللسان، عارفين بالعربية إضافة إلى لغتهم الأصلية.
وكان الخلفاء والملوك يهتمون بالسفراء والمبعوثين، ويستقبلون في قصور الخلفاء وتُسمع اراؤهم فيها، فحين سأل معاوية رسول البيزنطيين، بعد أن فرغ من بناء قصره المعروف بالخضراء، أبدى عليه ملاحظاته قائلاً: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفله فللفأر، وعندما أدرك معاوية صحة انتقاد السفير وصواب رأيه جعله يعيد بناء قصره بالحجارة.
وأما البيزنطيون فكانوا يستقبلون السفراء العرب في كنيسة أيا صوفيا وقناطير المياه والأديرة حول القسطنطينية، وعند رجوع السفير كانت تقدم له الهدايا والمجوهرات
الثمينة إكراماً له ولمن بعثه، ويبدو أن الهدف من وراء ذلك عند كلتا الدولتين، هو إظهار صيغ الاحترام المتبادل والنيات الحسنة في إقامة الصلح وإنابة السلام، وكذلك إظهار كل دولة للأخرى مدى قوتها ورخائها، كي تكون محط أنظار السفير ومهابته من أجل وصف ما يشاهده إلى من بعثه عند رجوعه إليه.
ورغم ما أشير إليه من الصفات التي يجب توفرها في السفير إلا أنه يبقى محط أنظار الخليفة أو الملك، وتراقب تصرفاته وحركاته خشية الوشاية والكيد وإشعال نار الحرب، وهذا ما حدث مع سفير معاوية إلى القسطنطينية الذي أرسل لعقد هدنة مع الروم، وكان السفير مزوَّداً بتعليمات مشددة تقتضي ألا يخفف من شروط الهدنة مع البيزنطيين، ولكن لم يستطع هذا السفير تنفيذ وصية معاوية، وتهاون في عقد الهدنة حتى جاءت في صالح البيزنطيين، فلما عاد؛ عزله من منصبه.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com