الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

(فتوحات الشمال الإفريقي في عهد معاوية رضي الله عنه)

الحلقة: السابعة والخمسون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020


أولاً: حملة معاوية بن حديج رضي الله عنه:
معاوية بن حديج الكندي له صحبة ورواية قليلة عن النبي ﷺ، فقد روى حديث رسول الله ﷺ: «إن كان في شيء شفاء فشربة عسل أو شرطة محجم، أو كية نار، وما أحب أن أكتوي».
وكان رضي الله عنه ملكاً مطاعاً من أشراف كندة، وكان من خيرة الأمراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيراً، ولا غلاماً إلا أبدل مكانه غلاماً. قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أُحدثكم ما سمعت من رسول الله ﷺ: «اللهم من ولي من أمر أُمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شقّ عليهم فاشقق عليه».
وبعد أن استتب الأمر لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كانت جبهة شمال إفريقية، من أولى الجبهات التي وجه إليها اهتمامه، لأنها تتاخم حدود مصر الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية، العدو اللدود للمسلمين، والتي صمم أمير المؤمنين معاوية على تضييق الخناق عليها، وعدم إعطائها فرصة لالتقاط أنفاسها، ففي الوقت الذي واصل فيه ضغطه عليها من الشرق، وزحفه على جزرها في البحر المتوسط تمهيداً للوصول إلى عاصمتها القسطنطينية ـ كما سبق ذكره ـ، نراه قد قرر أن يطوقها من الجنوب، من شواطأى شمال إفريقية التي كانت تعتبرها من أملاكها، ففي أول سنة من حكمه 41 هـ أرسل معاوية بن حديج على رأس حملة إلى إفريقية، ثم أرسله ثانية سنة 45 هـ على رأس حملة من عشرة الاف مقاتل، فمضى حتى دخل إفريقية وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم بن العاص، وغيرهم من أشراف قريش، فبعث ملك الروم إلى إفريقية بطريقاً يقال له: نقفور، في ثلاثين ألف مقاتل، فنزل الساحل، فأخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيل كثيفة، فسار حتى نزل على شرف عالٍ ينظر منه إلى البحر بينه وبين مدينة سوسة اثنا عشر ميلاً، فلما بلغ ذلك نقفوراً أقلع في البحر منهزماً من غير قتال، ورجع ابن الزبير إلى معاوية بن حديج وهو بجبل القرن، ثم وجه ابن حديج عبد الملك بن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء، فحاصرها وقتل من أهلها عدداً كثيراً حتى فتحها عنوة، وأغزى معاوية بن حديج جيشاً في البحر إلى صقلية في مئتي مركب، فسبوا وغنموا وأقاموا شهراً، ثم انصرفوا إلى إفريقية بغنائم كثيرة.
وبعد هذه الفتوح عاد معاوية بن حديج إلى مصر دون أن يترك قائداً أو عاملاً، ويفهم من هذا التصرف ومن سلوك معاوية بن حديج أثناء هذه الغزوة: أن البربر أهل البلاد كانوا قد أصبحوا حلفاء للمسلمين على الروم، وأن المسلمين كانوا يكتفون إلى ذلك الحين بإبعاد الخطر الرومي من هذه الناحية.
وعندما استعاد معاوية بن حديج طرابلس الغرب ترك فيها رويفع بن ثابت الأنصاري والياً عليها سنة 46 هـ، فغزا منها إفريقية (تونس) ودخلها سنة 47 هـ، وفتح جزيرة جربة التي كان يسكنها البربر، وقد تحدثت المراجع عن كثرة السبايا في هذه الغزوة، وقام رويفع بن ثابت الأنصاري بتذكير المسلمين في هذه الغزوة بأحكام وطء السبايا، حيث قال: أما إني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله ﷺ، يقول يوم حنين: «لا يحل لامرأى يؤمن بالله واليوم الاخر أن يسقي ماءه زرع غيره، ولا يحل لامرأى يؤمن بالله واليوم الاخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرأى يؤمن بالله واليوم الاخر أن يبيع مغنماًحتى يُقسم».
وقد بقي في ولاية طرابلس الغرب، ثم ولاه مسلمة بن مخلد ولاية مصر وبرقة، وبقي عليها أميراً، ومات بها سنة 56 هـ، وقبره معروف في الجبل الأخضر ببرقة في مدينة البيضاء، وهو اخر من توفي من الصحابة هناك، وروى عن النبي ﷺ ثمانية أحاديث، وكان فقيهاً من أصحاب الفتيا من الصحابة، وكان خطيباً مفوهاً.
ثانياً: عقبة بن نافع وفتح إفريقية:
هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقية لمعاوية وليزيد، وهو الذي أنشأ القيروان وأسكنها الناس، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، لم يصحّ له صحبة، شهد فتح مصر، واختطّ بها، فقد أسند معاوية بن أبي سفيان قيادة حركة الفتح في إفريقية إلى هذا القائد الكبير الذي خلد التاريخ اسمه في ميدان الفتوحات، وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن العاص، واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، وقد جاء إسناد القيادة إلى عقبة بن نافع خطوة موفقة في طريق فتح شمال إفريقية كله، ذلك أنه لطول إقامته في برقة وزويلة وما حولها، منذ فتحها أيام عمرو بن العاص، أدرك أنه لكي يستقر الأمر للمسلمين في إفريقية ويكف أهلها عن الارتداد، فلا بد من بناء قاعدة ثابتة للمسلمين ينطلقون منها في غزواتهم، ويعودون إليها ويأمنون فيها على أهلهم وأموالهم، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقية، أرسل إليه عشرة الاف فارس وانضم إليه من أسلم من البربر فكثر جمعه، وسار في جموعه حتى نزل بمغمداش من سرت، فبلغه أن أهل ودان قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجهه إليهم عمرو بن العاص، ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجه إليهم عقبة قسماً من الجيش عليهم عمر بن علي القرشي، وزهير بن قيس البلوي، وسار معهم بالقسم الاخر من الجيش، واتجه إلى فزان، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا، ثم واصل فتوحاته، فتح قصور كُوّار، وخاور، وغدامس، وغيرها.
ومما يلاحظ أن عقبة تجنّب في مسيره المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلداً بلداً، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل، وتمدّه بالطاقات البشرية للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي.


يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022