من كتاب الدولة الأموية خلافة: معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
فتوحات أبي المهـاجر دينـار (55 ـ 62 هـ)
الحلقة: التاسعة والخمسون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020
على الرغم من الخطأ الكبير الذي ارتكبه أبو المهاجر في حق سلفه، المجاهد الكبير عقبة بن نافع، إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إنه قام بدور عظيم في فتح المغرب وتمهيده لقبول الإسلام ديناً ونظام حياة، فقد كان أبو المهاجر يتمتع بقدر كبير من الكياسة والسياسة وحسن التصرف، وقد رأى ـ بثاقب نظرة ـ أن سياسة الشدة التي كان يسير عليها عقبة بن نافع لا بد أن تُغيَّر، وعليه أن يصطنع بدلها سياسة كسب القلوب، فالبربر قوم
أشداء يعتُّدون بكرامتهم وحريتهم؛ فسياسة اللين معهم قد تكون أجدى من سياسة الشدة، وقد نجح أبو المهاجر في سياسته تلك نجاحاً كبيراً.
كما أن أبا المهاجر قد أدرك أن الذين يحركون البربر في شمال أفريقيا ضد المسلمين ويؤلبونهم عليهم، هم الروم، الذين أخذوا يتحببون إلى البربر، ولذلك انتهج سياسة تقوم على كشف حقيقة الروم، وعلى إقناع البربر أن المسلمين ما جاؤوا إلى هذه البلاد ليستعمروهم ويستعبدوهم ويستغلوا بلادهم، كما يحاول الروم أن يفهموهم، وإنما جاؤوا لهدايتهم ولخيرهم ودعوتهم إلى الإسلام الذي فيه سعادتهم ومساعدتهم على التحرر من ربقة الروم، الذين يستغلون بلادهم منذ قرون، وكان الروم رغم الهزائم التي حلت بهم في وسط إقليم إفريقية وجنوبه، لا زالوا قوة في الشمال، ولا زالت عاصمتهم قرطاجنة عذراء لم يقصدها أحد من الفاتحين الأولين، ثم إنهم لا زالوا قوة في ساحل المغرب من بنزرت إلى طنجة، فكان على أبي المهاجر أن يضرب الروم ضربة قوية ليضعضع نفوذهم في تلك النواحي، ويكسر الحلف الذي عقدوه مع البربر، فسار إلى قرطاجنة ونازلها، فاستغلقت وتحصنت بالأسوار العالية، فشدد أبو المهاجر الحصار عليها، فعلم الروم أنه لا قبل لهم بالجيش الإسلامي، وأن أبا المهاجر لا بد أن ينتصر عليهم، فيدخل العاصمة باقتداره وقوته، فطلبوا الصلح فصالحهم بإخلاء جزيرة شريك، لتنزل فيها جنوده.
وكان أبو المهاجر يهدف من احتلال جزيرة شريك القريبة من قرطاجنة: أن يراقب الروم وتحركاتهم، وترك فيها حامية من الجيش جعل على رأسهـا قائده حنش الصنعاني ليصد الروم إذا حاولوا مهاجمة المسلمين أثنـاء غزوهم للبلاد. رفع أبو المهاجر الحصار عن قرطاجنة بعد أن انتزع من الروم جزيرة شريك، ذلك الموقع الاستراتيجي الهام، وترك فيهـا حاميـة تؤمن ظهـر المسلمين، وتراقب تحركـات الـروم، ثم اتجه بعد ذلك مسايراً الساحل ناحية الغرب، وقد خافـه الروم والبربر جميعاً، فلم يتعرَّض له أحـد، حتى وصل إلى مدينـة ميلـة على خمسين ميـلاً من بجايـة في جنوبهـا الشرقي، فوجدها مستعدة للقتال، وكان فيها طائفة من البربر والروم، تحصنوا بها، فنازلها أبو المهاجر واحتلها، وغنم ما فيها واستقر بها.
وكانت ميلة تتوسط المغربين الأدنى والأوسط، فهي أحسن مكان يراقب منه أمور البربر والروم في هذه البقاع، فجعلها مقره، وأقام بها نحواً من سنتين، وقد استثمر هذه المدة في الاتصال بالبربر، وإفهامهم حقيقة الإسلام، ودعوتهم إليه، وقد نجح في سياسته نجاحاً كبيراً، فأقبل البربر على الإسلام، واية ذلك أن المؤرخين لم يتحدثوا عن معارك وقعت له في هذه النواحي من المغرب ـ قسنطينة الان ونواحيها إلى بجاية ـ لأن الروم كانوا يتقوون بالبربر، وها هو أبو المهاجر قد نجح في اجتذاب البربر وفصلهم عن الروم، فسكنت تلك النواحي، سكون البحر بعد العاصفة وترامت الأخبار إلى أبي المهاجر أن جمعاً من الروم والبربر يستعد لحربه، فقرر المسير إليهم، وكانت زعامة المغربين الأوسط والأقصى لقبيلة أربة، وهي قسم كبير من أقسام البربر البرانس، وكان زعيم هذه القبيلة كسيلة بن لمزم، وكان كسيلة قوي الشخصية ذكي الفؤاد، غيوراً على وطنه، وكان البربر يجلونه ويحبونه، وكان نصرانياً متمسكاً بدينه، وكان لا يعرف حقيقة الإسلام والمسلمين، فاستطاع الروم أن يوحوا إليه ما أرادوا في الإسلام والمسلمين فراهم عدواً لدينه ووطنه، ورأى أن أبا المهاجر في ميلة، فعلم أنه لا بد أن يسير لافتتاح المغرب الأوسط والأقصى، فذهب يدعو البربر لمكافحة المسلمين والاستعداد لحربهم وإجلائهم عن بلادهم، فتحمَّس البربر بثورة أميرهم كسيلة فلبسوا لأْمة الحرب، واستعدوا للقراع، فتجمع لكسيلة جيش كثيف من البربر والروم
1 ـ معركة تلمسان:
بعد أن استكمل كسيلة عدته عسكر في تلمسان، وانتظر اللقاء المرتقب مع أبي المهاجر ولم يطل انتظاره، فقد وصل أبو المهاجر، وعسكر بجيشه حول تلمسان، فالتقى الجيشان ودارت معركة قاسية، أبلى فيها كل من الفريقين بلاءً كبيراً، وأدركوا خطورتها وأن لها ما بعدها، وكثر القتلى من الجيشين، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فهزموا جيش كسيلة فولى الأدبار.
2 ـ إسلام كسيلة:
أسر كسيلة في معركة تلمسان وحمل إلى أبي المهاجر فأحسن إليه وقربه وعامله معاملة الملوك، وطمع في إسلامه، فحدثه عن الإسلام وعرفه حقيقته، وأنه دين التوحيد الخالص، والعدل والمساواة، والأخوة، وأنه لو أسلم فلن يخسر شيئاً، بل العكس سوف يكسب الكثير روحياً ومادياً، وكان كسيلة ذكياً طموحاً مخلصاً لقومه لا يريد لهم إلا الإصلاح، فامن كسيلة، وأصبح من المسلمين وأغرم بالعربية فصار يتعلمها، وأصبح من المقربين من أبي المهاجر، وشمّر كسيلة لمناصرة الإسلام والمسلمين، ودعا قومه البربر للدين الحنيف، وكان البربر قد تفتحت قلوبهم للإسلام والمسلمين.
وعاد أبو المهاجر بعد أن اطمأن إلى أمور المغرب الأوسط وإلى إسلام البربر إلى مقره قريباً من القيروان، وأقام بقرية تسمى دكرور يراقب الأمور، ويرصد تحركات الروم ودسائسهم ويعمل على إزالة نفوذهم من الشمال الإفريقي، لكن لسوء الحظ لم يطل به المقام، فقد توفي مولاه مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر سنة 62 هـ، وكان مسلمة سنداً قوياً لأبي المهاجر، فلما زال هذا السند أعاد يزيد بن معاوية (60 ـ 64 هـ) عقبة بن نافع إلى إفريقية ثانية، وعزل أبا المهاجر.
وفي تولية أبي المهاجر على إفريقية دليل على ثقة مسلمة بن مخلد الأنصاري فيه وحسن معاملة الموالي في الإسلام، وبيان أن الناس كلهم سواسية في الإيمان سواء أكانوا عرباً مسلمين أو أجناساً أخرى من غير العرب، ونستدل من هذا الاختيار على أن الموالي قد تمتعوا بمكانة مرموقة في العصر الأموي بعكس ما تصوره بعض الأقوال، وقيل: إن أبا المهاجر من موالي النوبة في مصر، وقيل: بأنه يرجع إلى أصول بربرية.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com