الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية:
خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
حملة عقبة بن نافع الثانية (62 ـ 63هـ)
الحلقة: الستون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
 
 
وصل عقبة بن نافع إلى إفريقية، ورتَّب أمورها، وعامل أبا المهاجر معاملة قاسية، فقد أوثقه في وثاق شديد، ومع هذا فقد كان أبو المهاجر مخلصاً وفياً شهماً غيوراً، فلم يبخل بنصائحه لعقبة بالرغم مما حدث بينهما من الجفوة، ومن أبرز هذه النصائح: إشارته على عقبة بإكرام زعيم البربر كسيلة، ومحاولة تأليفه ليبقى على الإسلام، ولكن عقبة أهان ذلك الزعيم، حيث أمره يوماً أن يسلخ شاة بين يديه، فدفعها كسيلة إلى غلمانه، فأراده عقبة على أن يتولاها بنفسه وانتهره، فقام كسيلة مغضباً وجعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته، وبلغ ذلك أبا المهاجر فبعث إليه ينهاه ويقول: كان رسول الله ﷺ يتألف جبابرة العرب، وأنت تعمد إلى رجل جبَّار في قومه وبدار عزه، حديث عهد بالشرك، فتفسد قلبه؟! توثَّق من الرجل فإني أخاف فتكه، فتهاون به عقبة، وسيأتي الحديث عن غدر كسيلة بالمسلمين، وكيف اغتنم فرصة انفراد عقبة في بعض جيشه كما سيأتي بيانه، وكيف قال عقبة لأبي المهاجر: الحق بالقيروان وقم بأمر المسلمين وأنا أغتنم الشهادة، فقال أبو المهاجر: وأنا أغتنم الشهادة مثلك، فكسر كل واحد منهما غمد سيفه وكسر المسلمون أغماد سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا.
قد لاحظنا أن أبا المهاجر خاض معركة واحدة كبرى دوَّخ بها الروم والبربر، وخضع له البربر، ودخل بعض زعمائهم في الإسلام وأبرزهم كسيلة، ودخل كثير من قومه في الإسلام، ووفر أبو المهاجر بذلك جهوداً كبيرة لابد من بذلها في فتح بلاد المغرب لو بقي أولئك البربر على كفرهم، ولا شك أن عقبة حينما أهان ذلك الزعيم البربري لم يكن يعتقد بصحة إسلامه؛ إذ إن عقبة كان في غاية التواضع للمسلمين، وكان اجتهاده يقضي بمحاولة إذلال ذلك الرجل حتى يتحطم طغيانه وتهون مكانته في نفوس قومه، فلا يستطيع بعد ذلك أن يستنفرهم لحرب ضد المسلمين، ولكنه أخطأ في اجتهاده؛ لأن قوم ذلك الرجل كانوا حديثي عهد بالإسلام، ومهما كان لظن عقبة فيه من احتمال في عدم الصدق في الولاء؛ فإن كسبه وبقاءه في جيش المسلمين وتحت سلطتهم أولى بكثير من معاداته وإتاحة الفرصة له لضرب المسلمين من مكامن الخطر، وهو الذي صحبهم وحاز على شيء من ثقتهم.
ومن موقف عقبة المذكور تظهر لنا نتيجة مهمة من نتائج العمل بسنن الإسلام التي من أهمها العمل بالشورى، وأخذ رأي أهل الحل والعقد خاصة في الأمور المهمة، وعلى أية
حال فإن كلا القائدين كان مجتهداً في تصرفه، ولا يظن بواحد منهما أنه كان يعمل لصالح نفسه أو لصالح عشيرته، وإنما كان رائدهما النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين، ولكن كان اجتهاد أبي المهاجر أقرب إلى الصواب في هذه القضية.
1 ـ جهاده من القيروان إلى المحيط:
بعد اكتمال بناء القيروان عام خمسة وخمسين؛ عُزل عقبة بن نافع عن ولاية إفريقية، ثم لمّا أُعيد إليها عام اثنين وستين قام برحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي، ودعا لها قائلاً: يا رب املأها علماً وفقهاً، واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزاً لدينك وذلاً على من كفر بك.. وامنعها من جبابرة الأرض، وخرج عقبة بأصحابه الذين قدم بهم من الشام وعددهم عشرة الاف، إلى جانب عدد كبير انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل فلا أزال أجاهد من كفر بالله، ثم قال:
يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: إياكم أن تملؤوا صدوركم بالشعر وتتركوا القران، فإن القران دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدّين ذُلٌّ بالنهار وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقَ لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين فيجهلوكم دين الله، ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط فهو أسلم لكم، ومن احتاط سلم ونجا فيمن نجا ...
ثم قال: عليكم سلام الله، وأُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا ... ثم قال: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك.
وهكذا ما أن وطئت أقدام عقبة أرض القيروان حتى عزم على الخروج للجهاد غير هيَّاب ولا متردِّد، ومما يدل على مبلغ حبه للجهاد وهيامه به قوله في وصيته لأولاده: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل، فلا أزال أجاهد من كفر بالله. فهو قد باع نفسه من الله عز وجل، واشتاق إلى الثمن العظيم الغالي: {إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي}[سورة التوبة:111]. فجعل عمله الذي نذر حياته لأجله هو {ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ}[سورة التوبة:111] ، ونصب أمام عينيه الهدف السامي، وهو إعلاء كلمة الله في الأرض، وفي وصيته المذكورة لأولاده فوائد جليلة، فقد أوصاهم بثلاث وصايا:
أ ـ الوصية الأولى: الاهتمام بانتقاء العلم واختيار أطيبه، وذلك بالاهتمام أولاً بالقرآن الكريم، حيث إنه الكتاب الذي يدل على الله عز وجل، وما أبلغه من وصف يهدي إلى بلوغ الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وهو ابتغاء رضوان الله تعالى ونعيمه، ولا شك أن سنة رسول الله ﷺ مما يدخل في مقاصد القرآن الكريم؛ لقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡۚ} [سورة الحشر:7] . ثم انتقاء الطيب من كلام العرب الذي يرشد إليه العقل {وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} [سورة الحشر:7] ، ويحث على مكارم الأخلاق.
ب ـ الوصية الثانية: البعد عن الاستدانة ولو دفع إليها الفقر؛ لأن الدين ذل بالنهار؛ حيث يدفع المستدين إلى بعض مواقف الذل أمام الدائن ومن لهم علاقة به، وهمٌّ بالليل؛ حيث يخلو المستدين إلى نفسه فيتذكر حقوق الناس عليه.
جـ الوصية الثالثة: التحري في تلقي العلم، وذلك باختيار العلماء الربانيين أهل الورع والتقوى، والبعد عن العلماء المغرورين أهل الدنيا والجاه، فإنهم يزيدون المتعلم جهلاً حيث يبعدونه عن حقيقة العلم وثمرته وهي تقوى الله عز وجل. ونجد عقبة في نهاية وصيته لأولاده يسلّم عليهم سلام المودع، مما يدل على استماتته في سبيل الله تعالى، ثم يقول: اللهم تقبل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك. وبهذا الاهتمام الكبير نجح عقبة بن نافع رحمه الله في فتوحاته؛ حيث جعل الجهاد قضيته الكبرى في هذه الحياة.
سار عقبة في جيش عظيم متجهاً إلى مدينة باغية، حيث واجه مقاومة عنيفة من البيزنطيين الذين انهزموا أمامه ودخلوا مدينتهم وتحصنوا بها، فحاصرهم مدة، ثم سار إلى تلمسان وهي من أعظم مدائنهم، فانضم إليها من حولها من الروم والبربر فخرجوا إليه في جيش ضخم والتحم القتال، وثبت الفريقان حتى ظن المسلمون أن في تلك المعركة فناءهم، ولكن منَّ عليهم بالصبر فكانوا في ذلك أشدَّ وأصبر من أعدائهم، فهاجموا الروم هجوماً عنيفاً حتى ألجؤوهم إلى حصونهم فقاتلوهم إلى أبوابها، وأصابوا منهم غنائم كثيرة.
ثم استمر غرباً قاصداً بلاد الزاب، فسأل عن أعظم مدنها فقيل له: (أَرَبَه) وهي دار ملكهم، وكان حولها ثلاثمئة وستون قرية كلها عامرة، فامتنع بها من كان هناك من الروم وأهل المدينة، وهرب بعضهم إلى الجبال، فاقتتل المسلمون مع أهل تلك المدينة، فانهزم أهل تلك البلاد وقُتل كثير من فرسانهم، ورحل عقبة إلى (تاهرت) فاستغاث الروم بالبربر فأجابوهم ونصروهم، وقام عقبة بن نافع في الناس وخطب خطبةً فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه؛ بايعوا رسول الله ﷺ بيعة الرضوان على من كذب بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين بجنته بيعة رابحة، وأنتم اليوم في دار غربةٍ، وإنما بايعتم رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا؛ فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم عز وجل لا يُسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه، والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين.
وهذه خطبة عظيمة تدل على أن عقبة بن نافع رضي الله عنه قد اعتمد في حروبه على السلاح الأعظم الذي فيه سر انتصارات المسلمين الباهرة.. ألا وهو التوكل على الله تعالى، واستحضار عظمته وجلاله، ومعيته لأوليائه المؤمنين بالنصر والتأييد، فهو لا يبالي بجيوش الأعداء مهما كثرت، وإنما الذي يهتم به أن يتأكد جيداً من أن هذا
السلاح المعنوي الفعال قد توفر في جيشه، وحينما يضمن ذلك فإنه يرحب باجتماع جيوش الأعداء ليكون ذلك أسرع في هلاكهم وتمزيق جمعهم على يد أولياء الله الصالحين، وما أعظم شبه عقبة بخالد بن الوليد رضي الله عنه، الذي كان يُسَرُّ ويداخله شعور بالقوة والتعاظم ـ من غير غرور ولا استهانة ـ كلما تضخم جيش الأعداء وتعددت عناصره، وكأن عقبة قد تأسَّى به واتخذه له قدوة في القيادة والإقدام الذي لا يعرف التردد والسامة، وهو في إقدامه واندفاعه يدرك أن جنود الإسلام الصادقين هم بأس الله تعالى المسلط على أعدائه الكفار، والله تعالى لا يُردّ بأسه عن القوم المجرمين. إن شعوره الدائم بأن المجاهدين المسلمين هم سيف الله تعالى وبأسه الموجه ضد أعدائه يجعله عظيم الثقة بنصر الله تعالى وحسن الظن به.
هذا وقد التقى المسلمون بأعدائهم في مدينة (تاهرت) وقاتلوهم قتالاً شديداً، فاشتد الأمر على المسلمين لكثرة عدوهم، ولكنهم انتصروا أخيراً، وانهزم أعداؤهم من الروم والبربر، وقتل منهم عدد كبير، وغنم منهم المسلمون أموالهم وسلاحهم، ثم توجه إلى جهات المغرب الأقصى فوصل إلى طنجة، حيث قابل بطريقاً من الروم اسمه (جوليان)، الذي أهدى له هدية حسنة، ونزل على حكمه، ولما سأله عقبة عن بحر الأندلس؟ قال عنه: لا؛ إنه محفوظ لا يرام، ثم سأله عن البربر والروم، بقوله: دلني على رجال البربر والروم، فقال: قد تركت الروم خلفك، وليس أمامك إلا البربر، وفرسانهم في عدد لا يعلمهم إلا الله تعالى، وهم أنجاد البربر وفرسانهم، فقال عقبة: فأين موضعهم؟ قال: في السوس الأدنى، وهم قوم ليس لهم دين..
استفاد عقبة من هذه المعلومات واتجه إلى الجنوب الغربي، قاصداً بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعة، حيث بنى مسجداً في مدينة درعة، ثم غادر صحارى مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة (تافللت) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة (أغمات)، بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة تفيس، حيث حاصر بها جموعاً من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصراً وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى، ودخل عاصمتها (ايجلي) التي بنى فيها مسجداً، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام، فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة (ماسة)، ومنها إلى رأس (إيفران) على البحر المحيط.
وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، وتشير مصادرنا التاريخية أن عقبة لما وصل إلى المحيط الأطلسي قال: يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك. ثم قال: اللهم اشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بالله، حتى لا يعبد أحد من دونك، ثم وقف ساعة ثم قال لأصحابه: ارفعوا أيديكم، ففعلوا، فقال: اللهم لم أخرج بطراً ولا أشراً، وإنك لتعلم أنما نطلب السبب الذي طلبه عبدك ذو القرنين، وهو أن تُعبـد ولا يُشرك بك شيء، اللهم إنا معاندون لدين الكفر، ومدافعون عن دين الإسلام، فكن لنا ولا تكن علينا يا ذا الجلال والإكرام، ثم انصرف راجعاً.
وندرك من قوله المذكور مدى حبه للجهاد وشعوره بالمسؤولية الكبرى التي حملها على عاتقه نحو تبليغ الإسلام وتقوية دولته والقضاء على دول الكفر التي حجبت نور الإسلام عن شعوبها، فهو يقف على البحر المحيط ويعلم انذاك أنه نهاية المعمور من الأرض من ناحية المغرب، ثم نجده يُشهد الله تعالى على أنه قد بلغ المجهود الذي تحت مقدرته، وهذه الشهادة تشعرنا بمدى ارتباط عقبة بالله تعالى، وأنه لم يكن يسير خطوة إلا وهو يستلهم التوفيق منه جل وعلا، ويطلب رضوانه، وهذا الكلام يدل على وضوح الهدف من الجهاد عند عقبة؛ حيث بيّن أن الحد الذي يقف عنده الجهاد، أن يزول الشرك من الأرض، وأن لا يعبد إلا الله وحده، وما دام الشرك قائماً فإن الجهاد لا بد أن يكون موجوداً، فالجهاد إذن هو جهاد الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإزالة الطغيان البشري وإخضاع دول العالم لحكم الإسلام، لكي يكون فهم الإسلام واعتناقه متيسراً لكل الناس.
ولم يقف عمل عقبة على الجهاد، بل رافق ذلك بناء المساجد؛ مثل مسجد درعة، ومسجد ماسة بالسوس الأقصى، كما كان يترك نفراً من أصحابه يعلمون الناس القران وشرائع الإسلام، ومن هؤلاء شاكر الذي بنى رباطاً ما بين بلدتي مراكش وموجادور، ولا زال موقعه باقياً إلى اليوم؛ وهو المعروف عند العامة بالمغرب الأقصى بسيدي شاكر، ويظهر أن أغلبية بربر المغرب الأقصى أسلموا على يده طوعاً مثل صنهاجة وهسكورة وجزولة، كما أخضع المصامدة، وحملهم على طاعة الإسلام.
وكي يأمن القبائل الكثيرة من الانتقاض عليه، كان عقبة يأخذ منها رهائن ويولي عليها رجلاً منها مثلما فعل مع مصمودة؛ فقد ترك عليها أبا مدرك زرعة بن أبي مدرك، أحد رؤسائها، الذي شارك في فتح الأندلس فيما بعد.
ويلاحظ أن الوثنية كانت غالبة على بربر المغرب الأقصى مما يفسر كثرة السبايا والغنائم، وأصاب (عقبة) نساء لم يرى الناس مثلهن، فقيل: إن الجارية كانت تساوي بالمشرق ألف مثقال وأكثر وكان السبي أحد عوامل انتشار الإسلام بين البربر بحكم اختلاطهم بالبيئة العربية الإسلامية، ثم إن الاحتكاك والاختلاط المستمرين بين المقاتلة العرب والبربر أوجد صلات وروابط تجلت في الحلف والولاء في هذا الوقت المبكر.
يذكر السلاوي: أن عقبة حين وصل إلى جبل درن: نهضت زناتة وكانت خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة، وهذا يشعر بأن زناتة ومغراوة كانتا قد أسلمتا منذ زمن، وكانتا حليفتين للمسلمين فنهضتا للدفاع عن المسلمين
2 ـ استشهاد عقبة بن نافع وأبي المهاجر رحمهما الله تعالى:
يبدو أن عقبة المجاهد المخلص، كان يحس إحساس المؤمن الصادق، أنه سيلقى
ربه شهيداً في هذه الجولة، فعندما عزم على المسير من القيروان في بداية الغزو، دعا أولاده وقال لهم: إني قد بعت نفسي من الله عز وجل... إلى أن قال ولست أدري أتروني بعد يومي هذا أم لا، لأن أملي الموت في سبيل الله، وأوصاهم بما أحب، ثم قال: عليكم سلام الله.. اللهم تقبل نفسي في رضاك. نعى عقبة نفسه إلى أولاده، فتقبل الله منه وحقق له أمله في الشهادة، فقد أعد له الروم والبربر كميناً عند تهوذة، وأوقعوا به وقضوا عليه هو ومن معه من جنوده.
وترجع المصادر أمر الكارثة التي تعرض لها عقبة عند تهوذة إلى سبب رئيس وهو سياسته نحو البربر بصفة عامة، وزعيمهم كسيلة بصفة خاصة؛ ذلك الزعيم صاحب النفوذ والمكانة في قومه، والذي كان أبو المهاجر قد تألفه وأحسن إليه، فأسلم وتبعه كثير من قومه، لكن عقبة أساء إلى هذا الرجل إساءة بالغة، فأدرك أبو المهاجر عاقبة الخطأ الذي وقع فيه عقبة ولم يكتم نصيحته عنه ـ رغم أنه كان في حكم المعتقل ـ ولكن عقبة لم يسمع منه، وكان أبو المهاجر من معاشرته للبربر وزعيمهم، قد عرف مدى اعتزازهم بكرامتهم، وأدرك أنهم لن يقبلوا هذه الإهانة، وهذا الإذلال الذي لحق بزعيمهم من عقبة، فخاف غدرهم، فأشار على عقبة بالتخلص من كسيلة وقال له: عاجله قبل أن يستفحل أمره، ولكن عقبة لم يصغ إلى هذه النصيحة أيضاً وليته احتاط للأمر، بل أقدم على عمل اخر في غاية الخطورة، حيث جعل معظم جيشه يسير أمامه بعد أن رجع من رحلته الطويلة من المغرب الأقصى قاصداً القيروان، ولما صار قريباً من القيروان أرسل غالب جيشه على أفواج إلى القيروان، وبقي هو على رأس الفوج الأخير، ومعه ما يقرب من ثلاثمئة من الفرسان من الصحابة والتابعين، وكان من عادة عقبة أنه يكون في مقدمة الجيش عند الغزو ويكون في الساقة عند قفول الجيش، فهو بذلك يعرض نفسه لخطر مواجهة العدو دائماً، وإن هذه التضحية الكبيرة جعلته محبوباً لدى أفراد جيشه بحيث لا يعصون له أمراً ويتسابقون على التضحية اقتداء به، وهذه الصفة تعتبر من أهم عوامل نجاح القائد في أي عمل يتوجه إليه، ولما علم الروم بانفراد عقبة بهذا العدد القليل من جيشه انتهزوا هذه الفرصة لمحاولة القضاء عليه، وهم يدركون أن وجوده القوي يعتبر أهم العوامل في تماسك المسلمين وبقاء قوتهم، فتامروا عليه مع كسيلة البربري، فجمعوا لعقبة وأصحابه جمعاً لا قِبَلَ لهمبه، وإذا بكسيلة يحيط بجيش عقبة في جمع عدته خمسون ألفاً. وكان أبو المهاجر موثقاً في الحديد مع عقبة، فلمّا رأى الجموع تمثل بقول أبي محجن الثقفي:
كفى حزناً أن تمرغَ الخيلُ بالقَنَا
وأُتـركُ مشدوداً علـيَّ وثاقيا
إذا قمتُ عنّاني الحديـدُ وأُغلقت
مصارعُ من دوني تصمُّ المناديا
فلما سمع عقبة ذلك أطلقه، فقال له: الحق بالمسلمين وقم بأمرهم، وأنا أغتنم الشهادة، فلم يفعل، وقال: وأنا أيضاً أريد الشهادة، وهكذا كان أبو المهاجر نموذجاً من تلك النماذج الفريدة من الرجال، الذين هانت عليهم الحياة الدنيا، واستولى على قلوبهم حب الاخرة وكسب رضوان الله تعالى، ومن هذا المنطلق أقدم عقبة ومعه عدد قليل على معركة غير متكافئة، وكان بإمكان بعضهم الفرار ولكنهم ثبتوا ثبات الأبطال حتى استشهدوا جميعاً في بلاد (تهوذة) من أرض الزاب، ويَذكر المؤرخون أن قبور هؤلاء الشهداء معروفة في ذلك المكان، وأن المسلمين يزورونها.
وهكذا تحقق أمل عقبة وأبي المهاجر ونالا الشهادة في سبيل الله، ومن معهم من الفرسان؛ بعدما قاموا بالواجب الذي عليهم، واستقبلوا الشهادة في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة إلى حسن ثواب ربها، وقد استطاع عقبة أن يشق بجهاده للإسلام طريقه في هذا الجزء من العالم الذي سار فيه خلفاؤه من بعده: زهير بن قيس البلوي، وحسان بن النعمان الغساني، وموسى بن نصير، فقد حقق أهدافه من التمهيد لنشر الإسلام والجهاد في سبيل الله.
ولقد كان استشهاد عقبة بن نافع ومن معه في عام ثلاثة وستين للهجرة وعمره انذاك في حدود أربع وستين سنة، وبهذا ندرك مبلغ القوة التي كان يتمتع بها أسلافنا؛ حيث قام بتلك الرحلة الشاقة وخاض المعارك الهائلة وقد جاوز الستين من عمره، وهكذا استشهد هذا القائد العظيم بعد جهاد دام أكثر من أربعين عاماً قضاها في فتوح شمال إفريقية، ابتداء بمصر وانتهاء بالمغرب الأقصى.
3 ـ أثر معركة تهوذة على المسلمين 63 هـ:
كانت معركة تهوذة مصيبة على المسلمين، فقد استشهد القائد المجاهد عقبة بن نافع وصحبه، وكان لاستشهاده وقع أليم على المسلمين، وانتابتهم حالة من الهلع والفزع، فمع أن العدد الذي استشهد مع عقبة كان قليلاً ـ قيل: حوالي ثلاثمئة جندي ـ وأن معظم الجيش كان قد سار متقدماً ونجا من المعركة، وكان من الممكن أن يتماسك هذا الجيش ويقاوم، حتى يحتفظ بوجوده في القيروان، إلا أن الحالة النفسية للجنود لم تسمح بذلك.
وقد حاول زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان أن ينفخ في الجنود روح المقاومة والتصدي لكسيلة عندما زحف على القيروان، وهتف قائلاً: يا معشر المسلمين إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقد منّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، أو يفتح الله عليكم دون ذلك، ولكن صيحة زهير هذه لم تجد استجابة، بل لقيت معارضة وتثبيطاً، حيث تصدَّى له حنش الصنعاني وقال له: لا والله ما نقبل قولك، ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة من المسلمين إلى مشرقهم، ثم قال: يا معشر المسلمين من أراد منكم القفول إلى مشرقة فليتبعني، فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته، فنهض في أثره، ولحق بقصره ببرقة، وأقام بها مرابطاً إلى دولة عبد الملك بن مروان.
وأما كسيلة فاجتمع إليه جميع أهل إفريقية، وقصد القيروان، وبها أصحاب الأثقال والذراري من المسلمين، فطلبوا الأمان من كسيلة فأمنهم، ودخل القيروان، واستولى على إفريقية وأقام بها غير مدافع، إلى أن قوي أمر عبد الملك بن مروان، ولئن أخرجت إفريقية من يد المسلمين فإنها لم تخرج عن الإسلام، فقد أسلمت قبائل من البربر وثبتت على إسلامها، وكانت تعيش بالقيروان، وكان كسيلة يحسب حسابها ويتفاداها لشدة بأسها؛ فقد اعترف كسيلة بذلك حين اقترح على جيشه الخروج من القيروان واختيار موضع اخر لمواجهة جيش زهير الذي أمده به عبد الملك بن مروان؛ قال كسيلة: إني أردت أن أرحل إلى ممس فأنزلها، فإن هذه المدينة (يعني القيروان) فيها خلق عظيم من المسلمين، ولهم علينا عهد فلا نغدر بهم، ونحن نخاف إذا التحم القتال أن يثبوا علينا.
هذا وقد بقيت القيروان بيد كسيلة مدة تقارب خمس سنوات من عام (64 ـ 69 هـ) حتى خلصها زهير البلوي من قبضته بعد أن أمده عبد الملك بن مروان بجيش كبير، وسيأتي الحديث عن زهير بإذن الله في عهد عبد الملك بن مروان.
وفي مقتل عقبة رحمه الله درس بليغ؛ وهو أهمية الحذر من العدو؛ فقد أرسل جنوده وبقي في مجموعة قليلة من المقاتلين رغبة في الشهادة، وهذا مطلب سامٍ وكبير، إلا أن استشهاده كان له اثار سيئة على الفتوحات في شمال إفريقية، وضاعت القيروان من أيدي المسلمين لمدة خمس سنوات، وتأخرت الدعوة الإسلامية، لذلك يجب على القادة أن يوازنوا بين مصالح الأمة الكبرى وحرصهم على الشهادة.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022