من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(فتوحات معاوية في الجناح الشرقي للدولة الأموية)
الحلقة: الحادية والستون
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
كان المسلمون حتى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قد أتموا فتح البلاد التي تقع بين العراق ونهر جيحون، وتضم جرجان وطبرستان وخراسان وفارس وكرمان وسجستان، فلما قتل عثمان تعثرت حركة الفتح، وخرج أكثر أهل هذه البلاد عن الطاعة، حتى إذا جاء عهد معاوية رضي الله عنه أخذت دولته تبذل جهوداً بالغة لإعادة البلاد المفتوحة إلى الطاعة ومد حركة الفتح.
أولاً: فتوحات خراسان وسجستان وما وراء النهر:
لما استقامت الأمور لمعاوية بن أبي سفيان ولّى عبد الله بن عامر البصرة وحرب سجستان وخراسان، ولقد جاء تعيين عبد الله بن عامر في هذا المنصب نظراً لخبرته السابقة في هذه المنطقة، وفي سنة (42 ـ 43 هـ) عين ابن عامر، عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس واليـاً على سجستان، فأتاها وعلى شرطتـه عبّاد بن الحصين الحبطي ومعه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعبد الله بن خازم السُّلمي، وقطري بن الفجاءة، والمهلب بن أبي صفرة الأزدي، ففتحوا في هذه الحملة مدينة زرنج صلحاً، ووافق مرزبانها على دفع ألفي ألف (مليوني) درهم، وألفي وصيف.
ثم تقدموا نحو مدن خواش، وبست، وخُشَّك، وغيرها من البلدان وتمكنوا من فتحها، كما تمكنوا من فتح مدينة كابل بعد أن ضربوا عليها حصاراً استمر لعدة أشهر.
وما لبث أن جعل معاوية رضي الله عنه إقليم سجستان ولاية مستقلة، وأمّر عليها عبد الرحمن بن سمرة كمكافأة له على تحقيقه مثل تلك الفتوحات. وظل عبد الرحمن والياً عليها حتى قدم زياد بن أبي سفيان البصرة معيناً عليها بدل عبد الله بن عامر، والذي عزله معاوية سنة 45 هـ كما مر معنا، وعادت ولاية خراسان وسجستان مرة أخرى تحت إشراف والي البصرة.
وعند وصول زياد البصرة سنة 45هـ قسم خراسان أربعة أقسام؛ هي: مرو وعليها أُمَير أحمد اليشكري والذي كان أول من أسكن العرب في مرو، ونيسابور وعليها خُلَيد بن عبد الله الحنفي، ومرو الرُّود والطالقان والفارياب وعليها قيس بن الهيثم السُّلمي، وهَراة وباذغيس وبوشنج وقاديس وعين عليها نافع بن خالد الطاحي الأزدي، وفي سنة 47 هـ عمل زياد على جعل السلطة المركزية في خراسان في مدينة مرو (القاعدة الأساسية فيها).
ثانياً: تعيين الحكم بن عمرو الغفاري:
وكان عفيفاً وله صحبة، وفي سنـة 47 هـ غزا الحكم (طخارستان)، فغنم غنائم كثيرة، ثم سار إلى جبال الغور وغزا أهلها الذين ارتدوا عن الإسلام، فأخذهم بالسيف عنوة وفتحها وأصاب منها مغانم كثيرة، وكان المهلب بن أبي صفرة مع الحكم بخراسان، فغزا معه بعض جبال الترك، وغزا معه جبل (الأشل) من جبال الترك، إلا أن الترك أخذوا عليهم الشعاب والطرق واحتار الحكم بالأمر، فولى المهلب الحرب، فلم يزل المهلب يحتال حتى أسر عظيماً من عظماء الترك، فقال له: إما أن تخرجنا من هذا الضيق أو لأقتلنك، فقال له: أوقد النار حيال طريق من هذه الطرق، وسير الأثقال نحوه، فإنهم سيجتمعون فيه ويخلون ما سواه من الطرق، فبادرهم إلى طريق أخرى، فما يدركونكم حتى تخرجوا منه، وفعل ذلك المهلب، فسلم الناس بما معهم من الغنائم.
وقطع الحكم نهر جيحون وعبر إلى ما وراء النهر في ولايته ولم يفتح، وكان أول من شرب من مائه من المسلمين هو أحد موالي الحكم، فقد اغترف بترسه من ماء النهر، فشرب وناول الحكم فشرب وتوضأ وصلى ركعتين، وكان الحكم أول من فعل ذلك.
وقد قال عبد الله بن المبارك لرجل من أهل (الصغانيات): من فتح بلادك؟ فقال الرجل: لا أدري!! فقال ابن مبارك: فتحها الحكم بن عمرو الغفاري.
وقد مات الحكم سنة50 هـ، فخلفه الصحابي الجليل غالب بن فضالة الليثي، والذي واصل سياسة سلفه في إرسال حملات منظمة في فتح طخارستان، ولكنه رغم كل الجهود التي بذلها لم يحرز أي تقدم يذكر في ولايات طخارستان، لذلك عزله زياد و ولى مكانه
الربيع بن زياد الحارثي (50 ـ 53 هـ)، وقد استطاع الربيع بن زياد إبان فترة ولايته على خراسان أن يغزو بلخ، فصالحه أهلها، ثم غزا قوهستان ففتحها عنوة، ثم إن ابنه عبد الله خلفه لبضعة أشهر من عام 53 هـ، وخلفه خليد بن عبد الله الحنفي في إدارة الإقليم، وظل خليد في منصبه هذا حتى وصل عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان عامل معاوية رضي الله عنه المعين على خراسان في سنة (54 ـ 55 هـ)، وكان عبيد الله ابن 25 عاماً.
ثالثاً: عبيد الله بن زياد:
ما أن وصل عبيد الله إلى مرو حتى قاد حملة مكوَّنة من 24 ألف رجل، وقطعوا نهر جيحون على الإبل، وفتحوا راميثين ونسف وبيكندة فأرسلت «خاتون» ملكة «بخارى» إلى الترك تستمدهم فجاءهم منهم عدد كبير، فلقيهم المسلمون وهزموهم، وعند القتال انتصروا عليهم، فبعثت خاتون تطلب الصلح والأمان وصالحها عبيد الله على ألف ألف درهم فلم يفتح بخارى وفتح بيكندة، وكان قتال عبيد الله الترك من زحوف (خراسان) التي تذكر، وقد ظهر منه بأس شديد، فقد ذكر شاهد عيان، فقال: ما رأيت أشجع بأساً من عبيد الله بن زياد، لقينا زحف الترك بـ (خراسان)، فرأيته يقاتل فيحمل عليهم، فيطعن فيهم ويغيب عنا، ثم يرفع رايته تقطر دماً.
وبقي عبيد الله بخراسان سنتين، إذ ولاه معاوية البصرة سنة 55 هـ، فقدم معه البصرة بخلق من أهل بخارى؛ وهم ألفان كلهم جيد الرمي بالنشاب، وتولى ابن زياد أرفع المناصب في أيام معاوية ويزيد ومروان وعبد الملك، وكان موضع ثقة بني أمية، وكان يعتمد في حكمه على القوة القاسية لفرض سيطرتـه على الناس، وكان لا يبالي من أجل تدعيم سيطرته أن يرتكب كل أنواع الإجراءات الرادعة قتلاً وتعذيباً
وحجزاً للممتلكات والأموال، فقد كان ذا شخصية طاغية يحب الإمارة ويحب السيطرة، ولقد أساء ابن زياد، فترك تصرفه الأهوج في قتل الحسين رضي الله عنه أثراً بالغاً في أيامه، ولا نزال نعاني من نتائج قتله حتى اليوم، وسيأتي بيان تفصيل ذلك بإذن الله عند الحديث عن مقتل الحسين رضي الله عنه.
وفي سنة 55 هـ قدم أسلم بن زرعة الكلابي خراسان والياً عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان بدلاً من عبيد الله بن زياد، والذي ندبه معاوية لولاية البصرة، وظل أسلم في ولايته مدة تقارب السنة.
رابعاً: سعيد بن عثمان بن عفان (56 هـ):
تروي المصادر التاريخية أن سعيداً بن عثمان بن عفان قد اصطحب معه إلى خراسان حوالي أربعة الاف رجل فيهم عدد من مشاهير رجالات القبائل العربية في البصرة والكوفة، كما كان من ضمنهم حوالي خمسين عابثاً وقاطعاً للطريق من أمثال مالك بن الرِّيب المازني التميمي، وهؤلاء تابوا ورجعوا إلى رشدهم وفضلوا الجهاد في سبيل الله. ومالك بن الريب هو القائل:
ألمْ تَرَني بعتُ الضَّلالةَ بالهُدى
وأصبحتُ في جيشِ ابنِ عفَّانَ غازِيا
وقدم سعيد خراسان فقطع النهر إلى (سمرقند)، وبلغ خاتون ملكة بخارى عبوره النهر، فحملت إليه الصلح الذي صالحت عليه عبيد الله بن زياد، وأقبل أهل الصُّغد وكِش ونسف إلى سعيد في مئة ألف وعشرين ألفاً، فالتقوا ببخارى، وقد ندمت خاتون على أدائها الجزية، فنكثت العهد، ولكن قسماً من الحشود المجتمعة لقتال سعيد انصرفوا قبل مباشرة القتال، فأثّر انصرافهم في معنويات الاخرين واهتزّت معنوياتهم، فلما رأت خاتون ذلك، أعادت الصلح، فدخل سعيد مدينة بخارى فاتحاً، وطلب سعيد من خاتون أن تبعث إليه بثمانين من أعيان بلادها ممن كانوا على رأس الخارجين عليها، وممن تخشى غدرهم بها وتهديدهم لعرشها، وتخلّصت بذلك من أشدِّ أعدائها خطراً على عرشها وحاضرها ومستقبلها.
وحين تمَّ الصلح بين خاتون وسعيد، زارت خاتون سعيداً بمقرِّه، فطلعت عليه في زينتها الملكية، وكانت نادرة الجمال على ما يقال، فادّعى أهل بخارى أن القائد المسلم أعجب بجمالها أيّما أعجاب، وجرى ذكر إعجاب سعيد بها في الأغاني الشعبية التي لا يزال أهل بخارى يردِّدونها ويتغنون بها حتى اليوم ولكن هذا الإعجاب لا ذكر له في المصادر العربية الإسلامية المعتمدة، ومن الواضح أنه أقرب إلى خيال الأدباء والفنانين منه إلى حقائق المؤرخين. وغزا سعيد سمرقند، فأعانته خاتون بأهل بخارى، فنزل على باب سمرقند، وحلف ألاّ يبرح أو يفتحها، وقاتل المسلمون أهل سمرقند ثلاثة أيام، وكان أشدّ قتالهم في اليوم الثالث حيث فُقئت عين سعيد، ولزم أهل سمرقند أن يفتح سعيد ذلك القصر عنوة ويقتل من فيه، فطلبوا الصلح، فصالحهم على سبعمئة ألف درهم، وعلى أن يعطوه رهناً من أبناء عظمائهم، وعلى أن يدخل المدينة ومن شاء، ويخرج من الباب الاخر، فأعطوه خمسة وعشرين من أبناء ملوكهم، ويقال: إنهم أعطوه أربعين من أبناء ملوكهم، ويقال: ثمانين، وكان معه من الأمراء المهلب بن أبي صُفرة الأزدي وغيره، واستشهد معه يومئذ قثم بن العباس بن عبد المطلب، وكان يُشبَّه بالنبي ﷺ وكان أخوه عبد الله بن عباس دفن بالطائف، وأخوه معبد استشهد بإفريقية، وعبيد الله بالمدينة، وكلهم من أب واحد وأم واحدة، قال تعالى: { وَمَا تَدۡرِي نَفۡسٞ مَّاذَا تَكۡسِبُ غَدٗاۖ وَمَا تَدۡرِي نَفۡسُۢ بِأَيِّ أَرۡضٖ تَمُوتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرُۢ }[سورة لقمان:34]
هذا وانصرف سعيد بن عثمان إلى (تِرْمِذ) ففتحها صلحاً، وقد كان سعيد شاعراً، ومن شعره في معاوية قوله:
ذكـرتُ أميرَ المؤمنينَ وفضلَه
فقلتُ جزاه اللهُ خيراً بما وَصَل
وقـد سبقتْ منِّي إليـهِ بوادِرٌ
من القولِ فيه افةُ العقلِ والزَّلَل
فعـادَ أميـرُ المؤمنين بفضـلِهِ
وقدْ كانَ فيه قبـل عودَتِه مِيَل
وقال: خراسانُ لك اليومَ طعمةٌ
فجُوزِيَ أميرُ المؤمنين بمـا فَعَل
فلو كان عثمانُ الغـداةَ مكانَهُ
لما نالني من ملكِهِ فوقَ ما بَذَل
وعزل معاوية سعيد عام 57 هـ، فأخذ سعيد مالاً من خراج خُراسان، فوجّه معاوية من لقيه بـ (حلوان)وأخذ المال منه، ومضى سعيد بالرهن الذين أخذهم من أبناء عظماء (سمرقند) حتى ورد بهم المدينة النبوية، فدفع ثيابهم ومناطقهم إلى مواليه، وألبسهم جباب الصوف، وألزمهم السقي والعمل، وألقاهم في أرض يعملون له فيها بالمساحي، فأغلقوا يوماً باب الحائط ووثبوا عليه فقتلوه ثم قتلوا أنفسهم، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط الأموي:
ألا إنّ خيرَ النَّاسِ نفساً ووالداً
سعيدُ بن عثمانَ قتيلُ الأعاجَم
فإن تكنِ الأيامُ أردتْ صروفُها
سعيداً فهلْ حيٌّ منَ الناسِ سالم؟
وقال أيضاً يرثيه:
يا عينُ جودِي بدمعٍ منكِ تهتانا
وابكي سعيدَ بن عثمانَ بن عفانا
لم يفِ سعيد لأهل (سمرقند) بإعادة الرهن لهم، بل جاء بالغلمان معه إلى المدينة النبوية، وجعل يستعملهم في النخيل والطين وهم أولاد الدهاقين وأرباب النِّعم، فلم يطيقوا ذلك العمل، وسئموا عيشهم فوثبوا عليه في حائط له، وبذلك غدر بهم، فكان هذا الغدر وبالاً عليه، إذ قدم حياته ثمناً لغدره. لقد كان سعيد شهماً غيوراً يعتد بشخصيته، طموحاً، مُتْرَفاً، سخياً، وكان من شخصيات قريش البارزة.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com