الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

كتاب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما بشأن أهل الفتنة من الكوفة
الحلقة:الثالثة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
 
كتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنهما قائلاً: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين وما يُملون عليهم، ويأتون النَّاس ـ زعموا ـ من قِبَل القران فيشبهون على الناس، وليس كل النَّاس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رُقَى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيراً من النَّاس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست امن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم، فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجا فيه نفاقهم.
فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردّهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضجّ منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أميراً على حمص، فلما وصلوا إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، استدعاهم ، وكلَّمهم كلاماً شديداً ، وكان ممَّا قاله لهم: يا الة الشيطان ! لا مرحباً بكم، ولا أهلاً، لقد رجع الشيطان محسوراً خائباً، وأنتم ما زلتم نشيطين في الباطل، خَسَّرَ الله عبد الرحمن إن لم يؤدِّبكم ويخزِكم! يا معشر من لا أدري من أنتم أعرب، أم عجمٌ؟ لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية ، أنا ابن خالد بن الوليد ، أنا ابن من قد عَجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الرِّدَّة، والله لأذلنَّكم!
وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهراً كاملاً ، وعاملهم بمنتهى الحزم ، والشِّدَّة ، ولم يَلِن معهم كما لان سعيد، ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه، وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلُّهم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم صعصعة بن صوحان يقول له: يا بن الخطيئة! هل تعلم أنَّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشَّرُّ، وأن من لم يصلحه اللِّين أصلحته الشدَّة؟ وكان يقول لهم: لماذا لا تردُّون عليَّ، كما كنتم تردُّون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟! لماذا لا تخاطبوني، كما كنتم تخاطبوهما؟!.
ونفع معهم أسلوب عبد الرَّحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه، وشدَّته، وقسوته، وأظهروا له التَّوبة والنَّدم، وقالوا له: نتوب إلى الله، ونستغفره، أقِلْنَا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله!.
بقي القوم في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد، وأرسل عبد الرّحمن أحد زعمائهم وهو الأشتر النَّخعي إلى عثمان ليخبره بتوبتهم، وصلاحهم، وتراجعهم عمَّا كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احللْ أنت ومن معك حيث شئتم، فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وذكر من فضل عبد الرحمن وحزمه، فأقاموا عند عبد الرحمن في الجزيرة مدّةً، أظهروا فيها التّوبة، والاستقامة والصَّلاح.
وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين ، وكان هذا في شهور سنة ثلاث وثلاثين ، بعدما تمَّ نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشَّام ، ثمَّ إلى عبد الرّحمن بن خالد ، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أنَّ المصلحة تقتضي أن يسكتوا إلى حين.
إلا أن بقية دعاة الفتنة كانوا يشتغلون في البصرة، ومصر، وغيرها، وفي سنة أربع وثلاثين ـ السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان ـ أحكم عبد الله بن سبأ خطته، ورسم مؤامرته، ورتب مع جماعته السَّبئيِّين الخروج على الخليفة، وولاته، فقد اتَّصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشَّياطين من حربه في البصرة، والكوفة، والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم، وكاتبوه، وراسلهم، وراسلوه، وكان ممَّن كاتبهم، وراسلهم السَّبئيُّون في الكوفة، وقد كانوا بضعة عشر رجلاً منهم منفيين في الشَّام، ثمَّ في الجزيرة عند عبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين، كان زعيم السَّبئيِّين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس.
وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها، وأشرافها، لأنَّهم توجَّهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرُّعاع، والغوغاء الذين أثر فيهم السَّبئيون والمنحرفون، وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضدَّ والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص رضي الله عنه.
واستطاع القعقاع بن عمرو التميميُّ أمير الحرب بالكوفة أن يقضي على التحرك الأول بقيادة يزيد بن قيس، ولمّا رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته، وبصيرته، لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان، وخلعه، وأظهر له أنَّ كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد بن العاص، والمطالبة بوالٍ آخر مكانه، فاستُجيب لطلبهم، ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة، لما سمع كلام يزيد، ثمّ قال يزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد، ولا يجتمع عليك أحد، واجلس في بيتك واطلب ما تريد من الخليفة، وسيحقِّق لك ذلك بإذن الله.
واستمر يزيد بن قيس في إشعال الفتنة، واضطر إلى تعديل خطّته في الخروج، وبعد كيد ومكر وتدبير من أتباع السبئيِّيْن، قرّر الغوغاء والرُّعاع بقيادة يزيد بن قيس منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة، وكان سعيد بالمدينة.
ولمّا خرج السبئيُّون، والغوغاء طلباً للفتنة، والتمرُّد، وإحداث القلاقل، بقي في المسجد وجوه المسلمين، وأشرافهم، وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث، وطالب المسلمين بالأخوَّة، والوحدة، ونهاهم عن التفرُّق، والاختلاف، والفتنة، والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمرِّدين، قال القعقاع بن عمرو التميمي: أتردُّ السَّيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات: لا والله لا تُسكِّن الغوغاء إلا المشرفيَّة، ويوشك أن تُنْتضى، ثمَّ يعجُّون عجيج العتدان، ويتمنون ما هم فيه، فلا يردهم عليهم أبداً، فاصبر، فقال: أصبر، وتحوَّل إلى منزله.
واستطاع أهل الفتنة أن يمنعوا سعيد بن العاص من دخول الكوفة ورجع إلى المدينة، وكان من رأيه: أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقلِّ، وبعد رجوعه إلى المدينة أخبر سعيد عثمان بما حصل. قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يداً من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا؛ لقد أظهروا أنَّهم لا يريدونني والياً عليهم، ويريدون والياً اخر مكاني. قال له عثمان: من يريدون والياً؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعريَّ، قال عثمان: قد عيَّنا، وأثبتنا أبا موسى والياً عليهم، ووالله لن نجعل لأحد عُذراً ولن نترك لأحدٍ حجة، ولنصبرنَّ عليهم كما هو مطلوب منَّا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون، وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه والياً على الكوفة.
وكان أبو موسى رضي الله عنه يقوم بتهدئة الأمور، وينهى النَّاس عن العصيان. وقال لهم: أيها الناس لا تخرجوا في هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، والزموا جماعتكم، والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا، فكأنَّكم بأمير. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السَّمع، والطاعة لعثمان.
وما كانوا صادقين في ذلك، لكنَّهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقيَّة عن الآخرين، وكان أبو موسى يصلِّي بالنَّاس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه والياً على الكوفة.
وكتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة: أما بعد فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشنَّ لكم عِرضي، ولأبذُلنَّ لكم صبري، ولأستصلحنَّكم بجهدي، واسألوني كلَّ ما أحببتم، ممَّا لا يُعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئاً كرهتموه لا يُعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم، حتَّى لا يكون لكم عليّ حجّة. وكتب بمثل ذلك إلى الأمصار، رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه! وأوسع صدره ! وكم ظلمه السَّبئيُّون والخارجون الحاقدون، واختلفوا عليه.
مشورة عثمان لولاة الأمصار ورأي معاوية في ذلك:
واجه عثمان بن عفان الفتنة بوسائل وأساليب متنوعة؛ منها: إرسال لجان تفتيش وتحقيق إلى الولايات، ومحاولة معرفة أغراض أهل الفتنة، واستطاع أن يخترق صفوفهم، وأقام الحجة على الغوغاء والمتمردين بالحوار والنقاش، والاستجابة لبعض مطالبهم، وقد فصلت الحديث عن سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ومن الأساليب التي اتخذها عثمان رضي الله عنه: مشورته لولاة الأمصار رضي الله عنهم؛ حيث بعث إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجلٍ وكانوا: عبد الله بن عامر، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص؛ وهم من الولاة السابقين وكانت جلسة مغلقة وخطيرة، وقال فيها كل المشاركين برأيه، وكان رأي معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله، وأكفيك أنا أهل الشام.
وبعد أن سمع عثمان من المشاركين اقتراحاتهم قام، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكلِّ أمر باب يؤتى منه، إنَّ هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمَّة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه، فيُكفكف به: اللِّين، والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سدَّه شيء فرفق، فذاك والله ليُفتحنَّ، وليست لأحد عليَّ حجة حقٍّ، وقد علم الله أنِّي لم ال الناس خيراً، ولا نفسي. والله إنَّ رحا الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرِّكها، كفكفوا النَّاس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله ، فلا تُدهنوا فيها.
فمنع عثمان رضي الله عنه الولاة من التَّنكيل بمثيري الشَّغب، أو حبسهم، أو قتلهم، وقرَّر أن يعاملهم بالحسنى واللِّين، وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كلُّ بصير يرى أنَّها قادمة.
وقبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشَّام أتى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين ! انطلق معي إلى الشَّام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قِبَل لك بها. قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله  بشيء، ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذاً أبعث لك جيشاً من الشَّام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة، ليدافع عنك، وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا حتى لا أقتّر على جيران رسول الله  الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيِّق على أهل الهجرة والنُّصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين ! والله لتُغتالنَّ، أو لتُغزينَّ. قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل.
ولقد حدث كل ما توقعه معاوية، فجاءت جموع أهل الفتنة لتحاصر عثمان رضي الله عنه وتغتاله في النهاية. وحين جاء هؤلاء الثوار من مختلف الأقاليم لا نجد من بينهم جماعة من أهل الشام.
من كل ما سبق نجد أننا أمام وال كبير يشق طريقه بجدارة من بين الولاة إلى ما هو أبعد من الولاية؛ فقد استطاع أن يجعل من إقليم الشام الإقليم المهيأ لقيادة بقية الأقاليم في الدولة الإسلامية بما عمَّق فيه من حسن الطاعة للقيادة، وبما ثبت فيه من دعائم الاستقرار، وقطعه لأسباب الفتنة وعوامل الفرقة فيه. وهذا ما لا نجده في غيره من الأقاليم.
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022