الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

(إحسان معاوية رضي الله عنه إلى كبار الشخصيات من شيوخ الصحابة وأبنائهم وبخاصة بنو هاشم)

الحلقة: الثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020

خطب معاوية رضي الله عنه مرة في أهل الحجاز بعد توليه الخلافة ، فاعتذر عن عدم سلوكه طريقة الخلفاء الراشدين قبله ، فقال: وأين مثل هؤلاء؟! ومن يقدر على أعمالهم؟! هيهات أن يدرك فضلهم أحد من بعدهم! رحمة الله ورضوانه عليهم، غير أني سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة ، ولكم فيه مثل ذلك ، ولكم فيه مؤاكلة حسنة ، ومشاربة جميلة ، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة ، فإن لم تجدوني خيركم فأنا خير لكم ، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه ، ومهما تقدم مما قد علمتموه فقد جعلته دبر أذني ، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني بعضه.. وإياكم والفتنة فلا تهموا بها فإنها تفسد المعيشة ، وتكدر النعمة ، وتورث الاستئصال ، أستغفر الله لي ولكم.
وبمثل هذه السيرة صار خليفة المسلمين وانقاد له أبناء المهاجرين والأنصار ، وكل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة، كان رضي الله عنه ، يهتم بغزو القلوب والإحسان إليها ، مع الوعي والحذر الشديدين أن لا تنتقض الأمة عليه ، لقد كان يبذل المال بلا حساب لكبار الشخصيات القيادية في المجتمع ، ويعتبر أن عليها مسؤوليات ضخمة تجاه رعاياها من أبناء الأمة ، فلا بد أن تكون مليئة لسد الخلّة ، وتلبي الحاجة ، وتحلّ المعضلة ، ولعل أشراف بني هاشم كانوا في هذا الصدد أكثر قيادات الأمة إغداقاً عليهم بالمال ، ولا بدع فهم لا يزالون في عرف الناس القيادات الشعبية التي تمثل جماهير الأمة ، وتلجأ الأمة إليهم أكثر مما تلجأ إلى الولاة والأمراء ، وهذه القيادات لم تشارك في الحكم ولم تكن لها رغبة في ذلك.
أولاً: العلاقة بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما بعد الصلح:
كان الحسن بن علي يقدُم على معاوية في خلافته ، فقدم عليه ذات مرة ، فقال له معاوية: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك ، ولا أجيز بها أحداً بعدك ، فأعطاه أربعمئة ألف ، فقبلها.
وجاء في رواية: أن الحسن بن علي كان يفد كل سنة إلى معاوية ، فيصله بمئة ألف درهم ، فقعد سنة عنه ولم يبعث إليه معاوية بشيء ، فدعا بدواة ليكتب إليه ، فأغفى قبل أن يكتب ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه كأنه يقول: يا حسن أتكتب لمخلوق تسأله حاجتك وتدع أن تسأل ربك؟! قال: فما أصنع يا رسول الله وقد كثر ديني؟ قال: قل: اللهم إني أسألك من كل أمر ضعفت عنه قوتي وحيلتي ، ولم تنته إليه رغبتي ، ولم يخطر ببالي ، ولم يبلغه أملي، ولم يجر على لساني من اليقين الذي أعطيته أحداً من المخلوقين الأولين والمهاجرين والاخرين إلا أخصصتني به يا أرحم الراحمين. قال الحسن: فانتبهت وقد حفظت الدعاء ، فكنت أدعو به ، فلم يلبث معاوية أن ذكرني ، فقيل له: لم يقدم السنة ، فأمر له بمئتي ألف درهم.
وجاء في رواية: بأن الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن في المنام هو: «اللهم اقذف في قلبي رجاءك ، واقطع رجائي عمّن سواك، لا أرجو أحداً غيرك، اللهم وما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي ، ولم تبلغه مسألتي، ولم يجر على لساني مما أعطيت أحداً من الأولين والاخرين من اليقين فخصّني به يا رب العالمين» قال: فوالله ما ألححت به أسبوعاً حتى بعث إليّ معاوية بألف ألف وخمسمئة ألف ، فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ، ولا يخيّب من دعاه ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله، وحدثته حديثي فقال: يا بُني هكذا من رجا الخالق ولم يرجُ المخلوق.
وروى الزهري: لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجاء الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية ، فقال له معاوية: لو لم يكن لك فضل على يزيد إلا أن أمك امرأة من قريش وأمه امرأة من كلب لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً: صلات معاوية للحسن وابن الزبير رضي الله عنهم:
عن جعفر بن محمد ، عن أبيه: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما كانا يقبلان جوائز معاوية رضي الله عنه ، وكان يرسل للحسن والحسين ، فقد أمر معاوية مرّة للحسن بن علي بمئة ألف ، فذهب بها إليه فقال لمن حوله: من أخذ شيئاً فهو له ، وأمر للحسين بن علي بمئة ألف ، فذهب بها إليه وعنده عشرة فقسمها عليهم عشرة الاف، عشرة آلاف ، وأمر لعبد الله بمئة ألف.
وكان معاوية رضي الله عنه إذا لقي الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: مرحباً بابن رسول الله وأهلاً ، ويأمر له بثلاثمئة ألف ، ويلقى ابن الزبير رضي الله عنه فيقول: مرحباً بابن عمة رسول الله وابن حواريه ، ويأمر له بمئة ألف، وقد أشاد ابن الزبير بذكر معاوية بعد وفاته ، فقد حدث هشام بن عروة بن الزبير قال: صلى يوماً عبد الله بن الزبير ، فوجم بعد الصلاة ساعة ، فقال الناس: لقد حدث نفسه، ثم التفت إلينا فقال: لا يبعدن ابن هند: إن كانت فيه لمخارج لا نجدها في أحد بعده أبداً ، والله إن كنا لنفرقه ـ أي نخوفه ـ وما الليث في الحرب على براثنه بأجرأ منه فيتفارق لنا ، وإنا كنا لنخدعه ، وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه فيتخادع لنا ، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا حجر ـ وأشار إلى أبي قبيس. وقول ابن الزبير هذا قاله عندما حُصر في عهد عبد الملك بن مروان.
ثالثاً: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مع معاوية:
وكان معاوية يحترمه ويقدره، وكان يفد على معاوية، فيكرمه ويقرّبه ويحترمه ويعظِّمه، وكان يلقي عليه المسائل المعضلة فيجيب عنها سريعاً ، فكان معاوية يقول: ما رأيت أحداً أحضر جواباً منه. ولما جاء الكتاب بموت الحسن بن علي اتفق كون ابن عباس عند معاوية فعزّاه فيه بأحسن تعزية ، وردّ عليه ابن عباس ردّاً حسناً، وبعث معاوية ابنه يزيد فجلس بين يدي ابن عباس وعزّاه بعبارة فصيحة وجيزة شكره عليها ابن عباس.
أما تعزية معاوية رضي الله عنه وإجازته لابن عباس ، فكما رواها قتادة: ثم قال لابن عباس: لا يسوؤك الله ولا يحزنك في الحسن بن علي ، فقال ابن عباس لمعاوية: لا يحزنني الله ولا يسوؤني ما أبقى الله أمير المؤمنين. قال: فأعطاه ألف ألف درهم وعروضاً وأشياء وقال: خذها فاقسمها في أهلك.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما من سادات المجتمع الإسلامي، وقائد من قاداتها الكبار، وكان معاوية رضي الله عنه يعرف مكانته الاجتماعية والعلمية ، فابن عباس كان بمثابة المستشار للشؤون العلمية للخليفة ، وقد كان معاوية رضي الله عنه يعترف بفضل بني هاشم على بني أمية ، فقد قيل له: أيكم كان أشرف ، أنتم أو بنو هاشم؟ قال: كنا أكثر أشرافاً ، وكانوا أشرف واحداً ، لم يكن في عبد مناف مثل هاشم ، فلما هلك كنا أكثر عدداً ، وأكثر أشرافاً، وكان فيهم عبد المطلب ، ولم يكن فينا مثلهم ، فصرنا أكثر عدداً وأكثر أشرافاً، ولم يكن فينا واحد كواحدهم ، فلم يكن إلا كقرار العين حتى جاء شيء لم يسمع الأوَّلون بمثله ، ولن يسمع الآخرون بمثله ، محمد صلى الله عليه وسلم .
وكان معاوية رضي الله عنه يحذر بني أمية من الإساءة إلى ال علي بن أبي طالب قائلاً: إن الحرب أولها نجوى، وأوسطها شكوى، واخرها بلوى. وكان يطلب من خلصاء علي رضي الله عنه ، وصفه وسرد روائع خصاله وأعماله.
رابعاً: هل عمّم معاوية سبَّ أمير المؤمنين علي على منابر الدولة الأموية ؟:
تذكر كتب التاريخ أن الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون عليّاً ، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصحُّ ، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد ، عن لوط بن يحيى ، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه ، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك ، فقال كثير عزة الخزاعي:
ولِّـــيتَ فلـم تشـــتمْ عليّاً ولم تُخِــفْ بريّاً ولــم تَتْبَـــع مقــالةَ مُجْــرِمِ
تكــلَّمْتَ بالحـــقِّ المبيـــنِ وإنَّـــما تبينُ آيـــات الهُـــدَى بالتَّكَـــلُّمِ
فصـــدَّقتَ معــروفَ الذي قلتَ بالــذي فعلتَ فأضحى راضياً كــلُّ مُسْـــلِمِ
فهذا الأثر واهٍ ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف ، وشيخه لوط بن يحيى واهٍ بمرة ، قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة ، وقال أبو حاتم: متروك الحديث ، وقال الدار قطني: أخباري ضعيف ، ووصفه في الميزان: أخباري تالف لا يوثق به ، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل.
وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد ، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة ، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل ، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها ، ولم يثبت قط في رواية صحيحة ، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري ، واليعقوبي ، وأبي الفرج الأصفهاني ، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء؛ من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار ، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث ، ولا طبيعة المتخاصمين ، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية ، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً ، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي ، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة، وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة، ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة ، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل ، وسلامة السند من الجرح ، والمتن من الاعتراض ، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين ، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين ، وكان محمود السيرة في الأمة ، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين ، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم ، وسائر خصال الخير.
وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته ، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل ، ومن علم سيرة معاوية رضي الله عنه في الملك ، وما اشتهر به من الحلم والصفح ، وحسن السياسة للرعية؛ ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه ، فقد بلغ معاوية رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال ، وقدوة الأجيال ، وقد فصّلنا في صفة الحلم في شخصية معاوية فيما مضى.
وأما ما استدل به الشيعة على تلك الفرية من صحيح مسلم؛ فليس ما يدل على زعمهم ، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ من حمر النعم.
قال النووي: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه ، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً ، أو غير ذلك ، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب ، فأنت مصيب محسن ، ولعل سعد رضي الله عنه وقد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم ، وعجز عن الإنكار؛ أن ينكر عليهم ، فسأله هذا السؤال: قالوا: ويحتمل تأويلاً اخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ.
وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقاً على وصف ضرار الصُّدائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه لضرار ، فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته ، وعظيم حقه ومكانته ، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه ، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين ، والحلم وكرم الأخلاق ، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح ، وأصح ما فيه قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بالتصريح بالسب ، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك ، أو من نقيضه ، كما قد ظهر من جوابه ، ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه.
قال الدكتور الرحيلي في كتابه الصحب والآل: والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد ، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي رضي الله عنه؛ فإن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً فطناً ذكياً ، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم ، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي ـ رضي الله عنه ـ فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله رضي الله عنه لابن عباس: أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس: ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة ، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب ، وأما ما ادّعى الشيعة من أمر السب فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك ، والمانع من هذا عدة أمور:
1 ـ أن معاوية رضي الله عنه ما كان يسب علياً رضي الله عنه كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه ، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام ، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه ، فقد قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل ، وأحق بالأمر مني ، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي ، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: «ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم» ، فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً، بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا ؟!.
2 ـ أنه لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية رضي الله عنه تعرض لعلي رضي الله عنه بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته ، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته ، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
3 ـ أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً مشهوراً بالعقل والدهاء ، فلو أراد حمل الناس على سب علي ـ حاشاه ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وهو من هو في الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً ، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً ، فكيف بمعاوية ؟!.
4 ـ أن معاوية رضي الله عنه انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له ، واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك ، فأي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية.
5 ـ أنه كان بين معاوية رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الألفة والتقارب ، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ ، ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمئتي ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي ، فقال له الحسين رضي الله عنه: ولم تعطِ أحداً أفضل منا. ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر له بثلاثمئة ألف. وهذا مما يقطع الكذب مما يدَّعى في حق معاوية من حمله الناس على سب علي ، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم ؟! وبهذا يظهر الحق في هذه المسألة ، وتتجلى الحقيقة ، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشرع، حريصاً على تنفيذها ، ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات من المشركين؛ فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين ، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً: «لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا».
خامساً: معاوية وسمُّ الحسن بن علي:
ذكرت بعض الروايات أن الحسن بن علي توفي متأثراً بالسم الذي وضع له ، وقد اتجهت أصابع الاتهام نحو زوجة الحسن جعدة بنت الأشعث بن قيس أمير كندة؛ فهذه أم موسى سرية علي تتهم جعدة بأنها دست السم للحسن، فاشتكى منه شكاة: فكان يوضع تحته طست، وترفع أخرى نحواً من أربعين يوماً ، وهذه رواية إسنادها لا يصح وهي ضعيفة، وحاول البعض من الأخباريين والرواة أن يوجد علاقة بين البيعة ليزيد ووفاة الحسن، وزعموا أن يزيد بن معاوية أرسل إلى جعدة بنت قيس أن سمي حسناً فإني سأتزوجك ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت جعدة إلى يزيد تسأله الوفاء. فقال: إنا والله لم نرضك له أفنرضاك لأنفسنا؟!. وفي سندها يزيد بن عياض بن جعدية ، كذبه مالك وغيره ، وقد وردت هذه الروايات في كتب أهل السنة بدون تمحيص ، مع العلم أن تلك الروايات أسانيدها ضعيفة.
1 ـ قال ابن العربي: فإن قيل: دس على الحسن من سمَّه ، قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما: أنه ما كان ليتقي من الحسن بأساً وقد سلَّم الأمر، الثاني: أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله ، فكيف تحملونه بغير بيِّنة على أحد من خلقه في زمن متباعد ، ولم نثق فيه بنقل ناقل ، بين أيدي قوم ذوي أهواء ، وفي حال فتنة وعصبية ، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي ، فلا يقبل منها إلا الصافي ، ولا يسمع فيها إلا من العدل الصميم.
2 ـ وقال ابن تيمية: وأما قوله: معاوية سمّ الحسن ، فهذا ممّا ذكره بعض الناس، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به ، وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم.
وقد جاء عن ابن تيمية في رده على اتهام معاوية بسمّ الحسن وأنه أمر الأشعث بن قيس بتنفيذ هذه الجريمة وكانت ابنته تحت الحسن ، حيث قال: وإذا قيل: إن معاوية أمر أباها كان هذا ظناً محضاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». ثم إن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين ، وقيل: سنة إحدى وأربعين ، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي ، فلو كان شاهداً لكان يكون له ذكر في ذلك ، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين فكيف يكون هو الذي أمر بنته؟!. وهذا يدل على قدرة ابن تيمية للنقد العلمي القوي للروايات التاريخية.
3 ـ وقال الذهبي: قلت: هذا شيء لا يصح؛ فمن الذي اطلع عليه ؟ !.
4 ـ وقال ابن كثير: روى بعضهم: أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث: أن سُمَّي الحسن وأنا أتزوجك بعده ، ففعلت ، فلما مات الحسن بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن ، أفنرضاك لأنفسنا؟ وعندي أن هذا ليس بصحيح ، وعدم صحته عن أبيه معاوية بطريق الأولى والأحرى.
5 ـ وقال ابن خلدون: وما نقل من أن معاوية دس إليه السم مع زوجته جعدة بنت الأشعث ، فهو من أحاديث الشيعة ، حاشا لمعاوية من ذلك.
6 ـ د. جميل المصري: وقد علق على هذه القضية بقوله: ثم حدث افتعال قضية سم الحسن من قبل معاوية أو يزيد.. ويبدو أن افتعال هذه القضية لم يكن شائعاً آنذاك ، لأننا لا نلمس لها أثراً في قضية قيام الحسن ، أو حتى عتاباً من الحسين لمعاوية. وبالنسبة لسم الحسن رضي الله عنه ، فنحن لا ننكر هذا ، فإذا ثبت أنه مات مسموماً فهذه شهادة له وكرامة في حقه.
وأما اتهام معاوية وابنه فهذا لا يثبت من حيث السند ، كما مر معنا ، ومن حيث المتن ، وهل جعدة بنت الأشعث بن قيس بحاجة إلى شرف أو مال ـ كما تذكر الروايات ـ حتى تسارع لتنفيذ هذه الرغبة من يزيد ، وبالتالي تكون زوجة له ؟! أليست جعدة ابنة أمير قبيلة كندة كافة وهو الأشعث بن قيس ؟! ثم أليس زوجها وهو الحسن بن علي أفضل الناس شـرفاً ورفعة بلا منازعة ؟! إن أمه فاطمة رضي الله عنها ، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى به فخراً ، وأبوه علي بن أبي طالب أحد العشرة المبشرين بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ، إذاً ما هو الشيء الذي تسعى إليه جعدة وتحصل عليه حتى تنفذ هذا العمل الخطير؟!.
إن هناك الكثير الذين هم أعداء للوحدة الإسلامية ، وزادهم غيظاً وحنقاً ما قام به الحسن بن علي ، كما أن قناعتهم قوية بأن وجوده حياً صمام أمان للأمة الإسلامية ، فهو إمام ألفتها وزعيم وحدتها بدون منافس ، وبالتالي حـتى تضطرب الأحداث وتعـود الفتـن إلى ما كانت عليه فلا بد من تصفيته وإزالته ، فالمتهم الأول في نظري هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذين وجه لهم الحسن صفعة قوية عندما تنازل لمعاوية وجعل حداً للصراع ، ثم الخوارج الذين قتلوا أمير المؤمنين علـي بن أبي طالب وهم الذين طعنـوه في فخذه ، فربما أرادوا الانتقام من قتلاهم في النهروان وغيرها.
سادساً: موقف معاوية من قتلة عثمان رضي الله عنهما:
كان من ضمن شروط الحسن في صلحه مع معاوية ألا يطالب أحداً من أهل المدينة
والحجاز والعراق بشيء ، والذي يلاحظه المؤرخ أنه من ذلك الوقت ترك الطلب بدم عثمان، وقد تمّ الاتفاق على عدم مطالبة أحد بشيء كان في أيام علي؛ وهي قاعدة بالغة الأهمية تحول دون الالتفات إلى الماضي، وتركز على فتح صفحة جديدة تركز على الحاضر والمستقبل ، وقد تمّ التوافق المبني على الالتزام والشرعية؛ حيث تمّ الصلح على أساس العفو المطلق عن كل ما كان بين الفريقين ، قبل إبرام الصلح ، وبالفعل لم يعاقب معاوية أحداً بذنب سابق ، وتأسى بذلك بصلح الحسن على الإحسان والعفو ، وقد تمّ بسط الأمن وحفظ الدماء في عهد معاوية إلى حد كبير.
وجاء في عيون الأخبار لابن قتيبة: إن معاوية بن أبي سفيان لما قدم بعد عام الجماعة المدينة، دخل دار عثمان بن عفان، فصاحت عائشة بنت عثمان بن عفان وبكت ونادت أباها ، فقال معاوية: يا بنة أخي ، إن الناس أعطونا طاعة ، وأعطيناهم أماناً ، وأظهرنا لهم حلماً تحته غضب ، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد ، ومع كل إنسان سيفه ويرى موضع أصحابه ، فإن نكثناهم نكثوا بنا ، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا ، لأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عرض الناس.
والذي يعتد به من كلام ابن قتيبة ما جاء عن العهود والمواثيق التي أبرمت بين معاوية والحسن؛ وقضت بالصلح بين الناس ، ووضع الحرب وحقن الدماء ، وعدم تهييج النفوس ، وإضافة إلى ذلك فإن السنوات الخمس التي احتضنت المعارك في الجمل وصفين والنهروان ومصر وغيرها ذهبت بأولئك الذين ترددت أسماؤهم بتهمة قتل عثمان ، ومع ذلك فإن مسألة قتل عثمان ظلت حاضرة في ذهن الخلفاء من بني أمية ونوابهم في الأغلب، وأما انتصار بني أمية لعثمان فقد كان حقيقة لا شبهة فيها.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf 

عرض أقل


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022