من تاريخ الدولة الأموية: عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
(مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه)
الحلقة: الحادية والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
تحدثت معظم المصادر في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه؛ ومن هذه المصادر:
ابن سعد، وخليفة بن خياط باختصار شديد ، والبلاذري ، واليعقوبي ، والمسعودي ، وأبو الفرج الأصفهاني مطولاً ، وابن الجوزي ، وابن الأثير مطولاً ، والذهبي ، وابن كثير.
وقد اعتمد الطبري في خبر حجر بن عدي وأصحابه على أبي مخنف المؤرخ الشيعي المشهور ، والذي ليس بثقة ولا يعتمد عليه عند علماء المسلمين من أهل السنة ، فقد نقل الطبري عنه ست عشرة رواية.
وعموماً فإن خبر مقتل حجر بن عدي ورد في مصادر متعددة ولم تنفرد الروايات الشيعية بسوق خبره ، ولكن رواية أبي مخنف الساقط الاعتبار عند علماء أهل الجرح والتعديل أشارت إلى أن معاوية أوصى المغيرة بن شعبة بشتم علي وذمه ، لذلك كان المغيرة لا يترك ذمّ علي في خطبته طوال فترة ولايته على الكوفة ، ونص خطبته التي أغضبت حجر بن عدي كما أوردها أبو مخنف: اللهم ارحم عثمان بن عفان وتجاوز عنه ، واجزه بأحسن عمله ، فإنه عمل بكتابك ، واتبع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ، وجمع كلمتنا وحقن دماءنا ، وقُتل مظلوماً ، اللهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبيه والطالبين بدمه: ويدعو على قتلته.
وكما نلاحظ من نص الخطبة أنه لم يرد فيها ذمُّ علي ، ومع ذلك فإن الرواية تشير إلى أنّ هذه الخطبة تضمنت ذلك، إلا إذا تأولت لعنه لقتلة عثمان بأنه ذم لعلي. وبراءة علي من دم عثمان يعرفها القاصي والداني ، وقد أثبتها في كتبي عن عثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم جميعاً. ومهما يكن من أمر فإن الباحث في مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه ، يلاحظ أن موقف حجر من أمير المؤمنين معاوية قد مرّ بمرحلتين:
ـ المرحلة الأولى: مرحلة المعارضة القولية: (41 ـ 51 هـ):
كان حجر بن عدي الكندي ، أبو عبد الرحمن الشهيد ، له صحبة ووفادة ، وفد مع أخيه هانئ بن الأدبر ، ولا رواية له عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمع من علي وعمار ، وكان شريفاً ، أميراً مطاعاً ، أمَّاراً بالمعروف ، مقداماً على الإنكار ، من شيعة علي رضي الله عنه ، شهد صفين أميراً ، وكان ذا صلاح وتعبد، وكان رضي الله عنه من المعارضين للصلح الذي قام بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما ، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليها في هذه المرحلة أي فعل ، بل اقتصرت على الأقوال فقط ، وفي ذلك يقول البلاذري: ... لم يزل حجر بن عدي منكراً على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية ، فكان يعذله على ذلك ويقول: تركت القتال ومعك أربعون ألفاً ذوو نيات وبصائر في قتال عدوك، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه ، ويُظلِّمه، فكان هذا هجيراه، وعادته.
ـ المرحلة الثانية: مرحلة المعارضة الفعلية:
هذه المرحلة بدأت في سنة 51 هـ حيث حصل في هذه السنة تدهور مفاجئ في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق ، وقد ذكرت المصادر سببين في سبب تدهور هذه العلاقة:
أ ـ ما ذكر من إقدام المغيرة بن شعبة على الثناء على عثمان والترحم عليه ، وذم علي بن أبي طالب ، وإقدام حجر بن عدي على مدح علي بن أبي طالب ، وذم عثمان بن عفان ، وسكوت المغيرة عن حجر بن عدي ، فلما مات المغيرة بن شعبة وتولى زياد بن أبيه ، قال زياد في عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب مثلما كان يقول المغيرة، فقام حجر بن عدي وقال فيهما مثلما كان يقول للمغيرة ، فكان ذلك سبب ابتداء المواجهة بين حجر وزياد.
ب ـ ما ذُكر من إطالة زياد الخطبة ، وتأخير الصلاة ، وقيام حجر بإنكار ذلك على زياد ، فكان هذا سبب ابتداء المواجهة بينهما. وهذان السببان يكدرهما ما يلي:
* أن سياسة المغيرة رضي الله عنه مع أهل الكوفة اتسمت بالعفو والصفح ، وليس بإثارة الأحقاد والإحن ، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة ، قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له ، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير ، فإنما يأتيكم الان ، ثم قال: استغفروا لأميركم ، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام ، فشرط عليّ: النصح لكل مسلم. فبايعته على هذا ، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ، ثم استغفر ونزل.
* أن ضم الكوفة إلى زياد كان في سنة 49 هـ ، وهو ما صرح به فيل مولى زياد؛ حيث قال: ملك زياد العراق خمس سنين ، ثم مات سنة ثلاث وخمسين. وهذه الرواية التي تحدد تاريخ ضم الكوفة إلى زياد بن أبيه تعد أصح ما في الباب ، وحيث إن ولاية زياد على الكوفة كانت سنة 49 هـ ، ولم يحدث الصدام بين حجر وأنصاره وزياد والي الكوفة؛ لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما لا زال حياً، ووجوده كان كفيلاً بردع تحركات المعارضين للصلح من أنصاره؛ لأنه رضي الله عنه اشترط عليهم أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم.
ولكن بعد وفاة الحسن رضي الله عنه عام 51 هـ تغير موقف بعض قيادات أهل العراق ومنهم حجر بن عدي من المعارضة القولية إلى الفعلية؛ فقد روى البلاذري بإسناده إلى الشعبي ، وغيره ، قالوا: لما قدم زياد الكوفة ـ عام 49 هـ بعث إلى حجر فقال: يا هذا ، كنا على ما علمت ، وقد جاء أمر غير ذلك ، أمسك عليك لسانك ، وليسعك منزلك ، وهذا سريري فهو مجلسك ، فإياك أن تستنزلك السفلة أو تستفزك ، إني لو استخففت بحقك هان علي أمرك ، ولم أكلمك من كلامي هذا بحرف ، فلما صار إلى منزله اجتمعت إليه الشيعة فقالوا: أنت شيخنا وأحق الناس بإنكار هذا الأمر.
فلما شخص زياد إلى البصرة استخلف عمرو بن حريث على الصلاة والحرب ، ومهران مولاه على الخراج ، وأمر العمال بمكاتبة عمرو.. فكتب عمرو إلى زياد: إن كانت لك بالكوفة حاجة فالعجل ، فإني كتبت إليك وليس في يدي منها مع حجر إلا القصر ، فأخذ السير حتى قدم الكوفة ـ فبعث إلى عدي بن حاتم الطائي ، وجرير بن عبد الله البجلي... فقال: ائتوا هذا الشيخ المفتون ، فإني خائف أن يحملنا من أمره على ما ليس من شأننا فأتوه... وكلمه القوم ، فلم يكلم منهم أحداً ، فأتوا زياداً فقال: مهيم؟ فقال عدي: أيها الأمير ، استذمه ، فإن له سناً ، فقال: لست لأبي سفيان إذاً ، ثم أرسل إليه الشُّرَط فقوتلوا ، وجاء في رواية أخرى: لما قدم زياد الكوفة أميراً أكرم حجر بن الأدبر ، وأدناه ، وشفَّعَه ، فلما أراد الانحدار إلى البصرة دعاه فقال له: يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك ، وإني أريد البصرة ، فأحب أن تشخص معي ، فإني أكره أن تتخلف بعدي ، فعسى أن أبلَّغ عنك شيئاً فيقع في نفسي ، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء ، فقد علمت رأيك في علي بن أبي طالب ، وقد كان رأي من قبلك فيه على مثل ذلك ، فلما رأيت الله صرف الأمر إلى معاوية، لم أتهم قضاء الله ورضيت به ، وقد رأيت إلى ما صار أمر علي وأصحابه ، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك من ركب صدورها.
والمقصود من كلام زياد أنه كان من خواص علي رضي الله عنه ، ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة وحرص على وحدة الصف وحذر من الفتن ، فقال له حجر: إني مريض ولا أستطيع الشخوص. قال: صدقت ، والله إنك لمريض الدين والقلب ، مريض العقل ، وايم الله لئن بلغني عنك شيء أكرهه سأحرص على قتلك، فانظر أو دع ، فخرج زياد فلحق بالبصرة ، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة ، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر ، ولا يريد شيئاً إلا منعوه إياه ، فكتب إلى زياد: إني والله ما أنا في شيء مع حجر وأصحابه ، وأنت أعلم ، فركب زياد بغاله حتى اقتحم الكوفة ، فلما قدمها تغيب حجر ، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه.
أما تفاصيل المواجهة بين شرطة زياد وحجر بن عدي وأنصاره ، فقد انفرد أبو مخنف من بين المصادر التي وقفت عليها بإيراد تفاصيلها ، كذلك انفرد أبو مخنف بإيراد تفاصيل مهمة عن شهادة أهل الكوفة على حجر وأصحابه.
1 ـ قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه:
نظراً لخطورة قضية حجر بن عدي وحساسيتها، فقد وافق زياد بن أبيه على شرط حجر بن عدي عند استسلامه، وهذا الشرط هو إحالة قضية حجر ومن معه إلى معاوية ليحكم فيها.
وقبل الحديث عن حكم معاوية في حجر وأصحابه ، ينبغي التذكير بالتهم الموجهة إليهم ، وهذه التهم كما وردت عن أبي مخنف هي: ... أن حجراً جمع إليه الجموع ، وأظهر شتم الخليفة ، ودعا إلى حرب أمير المؤمنين ، وزعم أن هذا الأمر لا يصلح إلا في ال أبي طالب، ووثب بالمصر ، وأخرج عامل أمير المؤمنين ، وأظهر عذر أبي تراب ، والترحم عليه ، والبراءة من عدوه وأهل حربه ، وأن هؤلاء النفر الذين معه هم رؤوس أصحابه ، وعلى مثل رأيه وأمره.
أما قضاء معاوية رضي الله عنه في حجر رضي الله عنه وأصحابه؛ فإنه لم يقتلهم على الفور ، ولم يطلب منهم البراءة من علي رضي الله عنه كما تزعم بعض الروايات ، بل استخار الله سبحانه وتعالى فيهم ، واستشار أهل مشورته ، ثم كان حكمه فيهم أن قتل بعضهم ، واستحيى بعضهم ، والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل ، بإسناد حسن قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا ابن عياش ، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم ، قال: لما بُعث بحجر بن عدي الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان ، استشار الناس في قتلهم ، فمنهم المشير ، ومنهم الساكت ، فدخل معاوية منزله ، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم جلس على منبره ، فقام المنادي ، فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه ، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق ألا وأنت الراعي ونحن الرعية ، ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم ، وإنما علينا أن نقول: {سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيۡكَ ٱلۡمَصِيرُ ٢٨٥} [البقرة: 85]
فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم ورمى بها ما بين عيني معاوية. ثم قام المنادي فنادى: أين أبو المسلم الخولاني ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد ، فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك ، ولا عصيناك منذ أطعناك ، ولا فارقناك منذ جامعناك ، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك على عواتقنا ، إن أمرتنا أطعناك ، وإن دعوتنا أجبناك ، وإن سبقناك نظرناك ، ثم جلس.
ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق ، إن تعاقبهم فقد أصبت ، وإن تعفو فقد أحسنت.
فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين ، رعيتك ، ووليتك ، وأهل طاعتك ، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة ، وإن تعفو فإن العفو أقرب للتقوى يا أمير المؤمنين ، ولا تطع فينا من كان غشوماً ظلوماً ، بالليل نؤوماً ، عن عمل الآخرة سؤوماً.
يا أمير المؤمنين، إن الدنيا قد انقشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس.
فقلت لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضاً واستحيى بعضاً ، وكان فيمن قتل حجر بن عدي الأدبر، وكان حجر رضي الله عنه قبل قتله قال: يا قوم دعوني أصلي ركعتين ، فتركوه فتوضأ ، وصلَّى ركعتين ، فطوَّل، فقيل له: طوَّلت ، أجزعت؟ فقال: ما صليت صلاة أخفّ منها ، ولئن جزعت لقد رأيت سيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً ، وقبراً محفوراً. وكانت عشائرهم قد جاؤوهم بالأكفان ، وحفروا لهم القبور.
ويقال: بل معاوية الذي فعل ذلك. وقال حجر: اللهم إنا نستعديك على أمتنا ، فإن أهل العراق شهدوا علينا وإن أهل الشام قتلونا. فقيل له: مُدَّ عنقك. فقال: إنَّ ذاك لدم ما كنت لأُعين عليه ، وجاء في رواية: لما أتي معاوية بحجر ، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. قال: أو أمير المؤمنين أنا؟ اضربوا عنقه، فصلَّى ركعتين ، وقال لأهله: لا تطلقوا عني حديداً ، ولا تغسلوا عني دماً ، فإني ملاقٍ معاوية على الجادَّة.
وقد علق ابن العربي على مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه فقال: .. وأراد أن يقيم الخلق للفتنـة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً، وقد اعتمد معاوية رضي الله عنه في قضائه على قوله صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يَشُقَّ عصاكم ، أو يفرق جماعتكم ، فاقتلوه» ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه ستكون هنات، وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة ، وهي جميع ، فاضربوه بالسيف كائناً من كان».
ومما يجدر التذكير به في هذا المقام أن معاوية رضي الله عنه لم يكن ليقضي بقتل حجر بن عدي رضي الله عنه لو أن حجراً اقتصر في معارضته على الأقوال فقط ولم ينتقل إلى الأفعال ، ولنا في خبر المسور بن مخرمة وغيره مما مرّ معنا دلالة على ذلك.
2 ـ موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي رضي الله عنه:
بالغت الروايات في ذكر موقف عائشة رضي الله عنها من مقتل حجر بن عدي ، حيث ذهبت بعض الروايات إلى زعم بتهديد عائشة لمعاوية بالقتل حين زارها سنة 51 هـ، وكذلك التهديد بمحاربة معاوية.
وهذه الروايات لم يصح منها شيء في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأما حقيقة موقفها: فعن ابن أبي مليكة: أن معاوية جاء يستأذن على عائشة ، فأبت أن تأذن له ، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان ، قال: ويحك أدخلني على عائشة فإنها قد غضبت علي ، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له ، وكان أطوع مني عندها ، فلما دخل عليها قال: أمتاه فيمَ وجدت عليَّ يرحمك الله؟ قالت: ... وجدت عليك في شأن حجر وأصحابه أنك قتلتهم فقال لها: ... وأما حجر وأصحابه فإني تخوفت أمراً ، وخشيت فتنة تكون ، تهراق فيها الدماء ، وتستحل فيها المحارم ، وأنت تخافيني ، دعيني والله يفعل ما يشاء ، قالت: تركتك والله ، تركتك والله ، تركتك والله. وجاء في رواية أخرى: لما قدم معاوية دخل على عائشة ، فقالت: أقتلت حجراً؟ قال: يا أم المؤمنين ، إني وجدت قتل رجلٍ في صلاح الناس ، خير من استحيائه في فسادهم.
3 ـ ندم معاوية على قتل حجر بن عدي:
جاء في رواية: أن عائشة أرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه ، فقدم عليه وقد قتلهم ، فقال له عبد الرحمن: أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: غاب حين غاب عني مثلك من حلماء قومي ، قال الذهبي: يعني أنه ندم.
ومع أن قتل حجر رضي الله عنه وإن ذكر له من الأعذار والمبررات ما ذكر ، ففي الحقيقة كانت غلطة من معاوية، وكان ينبغي أن يتسع حلمه لصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ندم معاوية ندماً كبيراً على قتل حجر ، وظل يذكر هذه الحادثة طوال حياته ، وقد روي أنه قال عند موته: يوم لي من ابن الأدبر طويل: ثلاث مرات ـ يعني حجراً.
4 ـ موقف لمالك بن هبيرة السكوني رضي الله عنه:
لم يقبل معاوية رضي الله عنه شفاعة مالك بن هبيرة السكوني في حجر بن عدي ، فجمع مالك قومه وسار ليخلصه وأصحابه ، فلقي القتلة وسألهم ، فقالوا: مات القوم. وسار إلى عَدِيّ فتيقن قتلهم ، فأرسل في أثر القتلة فلم يدركهم ، وأخبروا معاوية فقال: تلك حرارة يجدها في نفسه وكأني بها قد طفئت. ثم أرسل إليه بمئة ألف وقال: خفت أن يعيد القوم حرباً فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر ، فطابت نفسه.
وكان مالك بن هبيرة السكوني صحابياً جليلاً، وكان معاوية رضي الله عنه ولاّه حمص، وكان يقول فيه: ما أصبح عندي من العرب أوثق في نفسي نصحاً بجماعة المسلمين وعامتهم من مالك بن هبيرة.وقد كان يَسَعُ معاوية غير القتل من العقوبات ، كالسجن ، أو تفريق حجر وجماعته ، أو يمنُّ بهم على عشائرهم.
5 ـ ما قيل في حجر بن عدي من رثاء:
قالت هند بنت زيد بن مخرمة الأنصارية في رثاء حجر:
ترفَّعْ أيهــــا القمــــرُ المنيـــــرُ تَـبَصَّـــرْ هل تــرى حِجْراً يســـيرُ
يســيرُ إلى معاويــــةَ بــنِ حــربٍ ليقتلَــهُ كـــما زَعَـــمَ الأمـــيرُ
تَجَبَّـــرَتِ الجبابِـــرُ بعــد حجــرٍ وطــابَ لهــا الخَـوَرْنَقُ والسَّـــديرُ
وأصبحــتِ البلادُ بهـــــا مُحُـــولاً كـــأن لم يُحْيِهَا مُـــزْنٌ مَطِــــيْرُ
ألا يــا حجــرُ حجرُ بــن عـــديٍّ تلقـاك السَّــــلامةُ والسُّـــــرورُ
أخــــافُ عليكَ مَــا أدري عـــديّاً وشـــيخاً في دمشــــق لــه زئيرُ
إلى أن قالت:
ألا يا ليت حجــراً مــــات مـــوتاً ولم يُنْحَـــرْ كـــما نُحِـــرَ البعيرُ
فإنْ تَهْلِكْ فكـــلُّ زعيـــمِ قــــومٍ مِـــنَ الدُّنيا إلى هُــلكٍ يَصِـــيرُ
وفيما عدا قضية حجر وأصحابه فقد حافظ معاوية على سياسته السلمية القائمة على الحلم وسعة الصدر مع رعيته ، والتي لخصها هو نفسه في جمل يسيرة حين قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، ولو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت؛ كانوا إذا شدوها أرخيتها ، وإذا أرخوها شددتها. وهي سياسة حكيمة تفسح المجال أمام القول إذا ما ظل في حدود لا يتعداها ، فحيث يكفي المال عن اللسان يعتمده ، ولا يضع السوط حيث يكفي اللسان ، ولا يضع السيف حيث يكفي السوط، وقد قيل: بأن سليم مولى زياد فخر بزياد عند معاوية ، فقال معاوية: اسكت ما أدرك صاحبك شيئاً قط بسيفه إلا وقد أدركت أكثر منه بلساني.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf