الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من كتاب الدولة الأموية

خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

(مباشرة معاوية رضي الله عنه للأمور بنفسه)

الحلقة: الثانية والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020

من القواعد التي قامت عليها سياسة معاوية الداخلية: مباشرة الأمور بنفسه ، وكان رضي الله عنه يحرص على معرفة كل صغيرة وكبيرة في دولته فرغم أنه استعان بأمهر رجال عصره ، إلا أنه لم يكن يكتفي بذلك بل كرّس كل وقته وجهده للدولة ورعاية مصالح المسلمين.
1 ـ مجلس معاوية في يومه:
كان معاوية رضي الله عنه يظهر في اليوم والليلة خمس مرات ، فكان إذا صلى الصبح جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يدخل فيؤتى بمصحفه ، فيقرأ جزأه ثم يدخل إلى منزله فيأمر وينهى ثم يصلي أربع ركعات ، ويخرج إلى مجلسه ، فينادي بخاصته ، فيحدثهم ويحدثونه ، ويُدخل عليه وزراءه ، فيكلمونه فيما يريدون من يومهم ، ثم يؤتى بالغداء الأصغر ، وهو فضل عشاء الليل ، ... ثم يتحدث طويلاً ، ثم يدخل منزله لما أراد ، ثم يخرج فيقول: يا غلام أخرج الكرسي ، ويسند ظهره إلى المقصورة ، ويقوم الحراس ، فيقدم إليه الضعيف والأعرابي والصبي والمرأة ، فيقول: ظلمت ، فيقول: أعزّوه ويقول: عُدِي عليّ ، فيقول: ابعثوا معه ، ويقول: صُنع بي ، فيقول: انظروا له ، حتى إذا لم يبق أحد ، دخل فجلس على السرير ، ثم يقول: ائذنوا للناس على قدر منازلهم ، ولا يشغلني أحد عن رد السلام ، فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين أطال الله عمره؟ فيقول: بنعمة من الله، فإذا استووا جلوساً ، قال: يا هؤلاء إنما سُميتم أشرافاً ، لأنكم شرفتم من دونكم بهذا المجلس ، ارفعوا حاجة من لا يصل إلينا، فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان ، فيقول: افرضوا لولده ، ويقول: غاب فلان عن أهله ، فيقول: تعاهدوهم وأعطوهم ، واقضوا حوائجهم واخدموهم.
ويؤتى بالغداء ويحضر الكاتب ، فيقوم عند رأسه ، ويقدم الرجل فيقال له: اجلس على المائدة فيجلس فيمد يده ، فيأكل لقمتين أو ثلاثاً ، والكاتب يقرأ كتابه ، فيأمر فيه بأمره ، فيقال: يا عبد الله أعقب ، فيقوم ويتقدم اخر حتى يأتي على أصحاب الحوائج كلهم ، وربما قدم عليه من أصحاب الحوائج أربعون أو نحوهم على قدر الغداء ، ثم يرفع الغداء ، وينصرف الناس ، ويدخل منزله ، فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر ، فيخرج فيصلي ، ثم يجلس فيأذن لخاصة الخاصة ، فإن كان الوقت شتاء أتاهم بزاد الحاج ، من الأخبصة اليابسة والخشكبالج، والأقراص المعجونة بالسكر والليّن من دقيق السميد ، والكعك المسمن والفواكه اليابسة ، وإن كان الصيف أتاهم بالفواكه الرطبة ، ويُدخل عليه وزراءه فيؤامرونه فيما احتاجوا إليه بقية يومهم ، ويجلس إلى العصر ، ثم يخرج فيصلي العصر ثم يدخل منزله ، فلا يطمع فيه طامع حتى إذا كان في اخر وقت العصر ، خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم ، فيؤتى بالعشاء فيفرغ منها مقدار ما ينادى بالمغرب فيصليها ، ثم يصلي أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة خمسين اية ، يجهر تارة ويخافت أخرى.
ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالعشاء الاخرة ، فيخرج فيصلي ثم يؤذن للخاصة ، وخاصة الخاصة ، والوزراء والحاشية ، فيؤامره الوزراء فيما أرادوا صدراً من ليلتهم ، ويسمر ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها ، والعجم وملوكها وسياساتها ، وسير الأمم وحروبها ، ومكائدها وسياساتها لرعيتها ، وغير ذلك من أخبار الأمم السالفة ، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه: من الحلواء وغيرها من المآكل اللطيفة ، ثم يدخل فينام ثلث الليل ، ثم يقوم: فيحضر الدفاتر ، فيها سير الملوك وأخبارها ، والحروب والمكائد ، فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون ، وقد وكّلوا بحفظها وقراءتها ، فيمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والاثار ، فيخرج ثم يصلي الصبح ، ثم يعود فيفعل ما وصفنا كل يوم وليلة ، وقد تبعه في ذلك عبد الملك بن مروان وغيره ، فلم يدركوا حلمه ، ولا إتقانه السياسة ولا التأني للأمور ، ولا مدارات الناس على منازلهم ، ورفقه بهم على طبقاتهم.
2 ـ الدواوين المركزية التابعة لمعاوية:
أ ـ ديوان الرسائل:
هو الهيئة المشرفة على تحرير رسائل الخليفة وأوامره وعهوده ، ووصاياه ، ومواثيقه إلى موظفيه في الأقاليم الإسلامية إلى البلدان الخارجية التي لها علاقة بالدولة الإسلامية ، ومن أشهر من أشرف على ديوان الرسائل وقام بمهمة الكتابة في هذا الديوان في عهد معاوية: عبد الله بن أوس الغساني ، وزمل بن عمرو العذري ، واستمر هذان الكاتبان في خلافة يزيد الأول، وكانت وسيلة الرسائل في الاتصال بالولاة وقادة الجند ، والقضاة ، وزعماء القبائل تابعة لمعاوية وتحت إشرافه المباشر.
ب ـ ديوان الخاتم:
أنشأ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ديوان الخاتم لتحقيق السرية والأمان لمراسلات الدولة ، فلا تطلع عليها عين جاسوس ، ولا تصل إليها يد خائن، وكان من أغراض هذا الديوان تحاشي التزوير ، ومنع حدوث التلاعب في الكتب التي يصدرها الخليفة، ثم أصبح الديوان بمثابة سجل للكتب الصادرة، وصارت الدولة تعتمد عليه في تدقيق الأوامر، والمراسلات التي تتعلق بالصرف والحسابات ، بين مقر الخلافة والأقاليم الإسلامية الأخرى ، كما أنه كان يقوم بالإشراف على تدقيق الدواوين الأخرى ، وبيان الأخطاء التي تقع فيها.
وهذا الديوان يختلف عن ختم الرسول ، وختم الخلفاء الراشدين ، فختم الرسول  يعني التوقيع بالختم ، بينما نراه في عهد معاوية ، وعصر الدولة الأموية بمثابة جهاز للفحص والتدقيق في الأعمال الصادرة عن الدواوين الأخرى ، وقد تقلد الخاتم الكبير لمعاوية: عبد الله بن محصن الحميري، وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمئة ألف درهم ، وكتب بذلك إلى زياد بن أبيه وهو على العراق ، ففض عمرو الكتاب وصير المئة مئتين ، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية ، فأخذ عمراً بردها، وحبسه ، فأدّاها عنه أخوه عبد الله بن الزبير ، فأحدث معاوية عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب ، ولم تكن تخزم ، وفي الحقيقة فإن تأسيس ديوان الخاتم أملته ظروف اتساع الدولة الإسلامية في عهد معاوية رضي الله عنه ، وحاجة الخليفة إلى نظام اتصال آمن وسري لمتابعة عماله وقواده ورجال دولته.
جـ ديوان البريد:
يذكر المؤرخون: أن معاوية بن أبي سفيان أول من أدخل نظام البريد في الدولة الإسلامية ، وأصدر أوامره بوضع الخيول في عدة أماكن ، وقام بتنظيمه، وتشير بعض المصادر إلى أنه اقتبس من الروم ، وكانت أعماله في العصر الأموي واسعة ومتشعبة ، نظراً لسعة رقعة الدولة الإسلامية.
وقد قام الخلفاء الأمويون بتحسين طرق المواصلات التي يسير عليها صاحب البريد ، وكانت تلك الطرق واضحة ومعلومة ، والدليل على تحسين هذه الطرق هو سرعة وصول الأخبار إلى مقر الخلافة بالشام.
ولم تكن خدمات ديوان البريد قاصرة على ما يتعلق بالدولة ، بل كان في بعض الأوقات يحمل رسائل الناس من بلد إلى آخر.
وكانت الدولة في عهد معاوية لا تستغني عن البريد في حالات السلم ، وحالات الحرب ، وكان موظف البريد من أهم أعوان الخليفة ، وقد ذكرت بعض المصادر أسماء بعض من اشتغل مع معاوية في ديوان البريد؛ وهما: نصر ين ذبيان ، والكميت ، كانا على البريد في أيام معاوية ، واستخدمهما في نقل الأخبار بين الشام والحجاز.
وكانت أهم وسائل النقل: البغال ، والخيل، ويعتبر معاوية مؤسس نظام البريد في الإسلام ، حيث كانت الرسائل ترسل قبل ذلك من قبل الخليفة إلى الجهة التي يراد إرسالها إليها ، عن طريق رسول يحملها وينطلق بها وحده ، حتى يوصلها إلى الجهة المقصودة ، فكانت الرسائل بذلك تستغرق مدة طويلة حتى تصل إلى محلها ، وأما نظام البريد الذي استخدمه معاوية اقتباساً من البيزنطيين فقد كان يقتضي أن تقسم الطرق إلى مسافات، يوضع في نهاية كل مسافة دواب (خيل) مهيأة لحمل رسائل الخليفة إلى الجهات المختلفة ، تسلم الكتب والرسائل إلى صاحب البريد ، وينطلق بها مسرعاً حتى إذا بلغ نهاية المسافة سلمها لمن بعده ، وتظل الرسالة تنطلق من مسافة إلى مسافة حتى تصل إلى الجهات المرسلة إليها في أقصر مدة ، وأما مقدار المسافة الواحدة ، فكان أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، وبذلك تكون طول المسافة اثني عشر ميلاً ، أي: عشرين كيلو متراً تقريباً ، وهذه المسافة تسمى بريداً ، وبهذه الطريقة تصل الرسالة بأكبر سرعة ، دون إجهاد لصاحب البريد ، حيث إن المسافة يمكن قطعها بسهولة ، وتناوب أصحاب البريد إذا كان سيقطع المسافة وحده ، وهكذا يوفر هذا النظام الراحة لأصحاب البريد ، واختصار الوقت ، يقول أبو هلال العسكري: أول من وضع البريد في توصيلها يوفر الزمن الذي يستريحه صاحب البريد في الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وأحكم أمره عبد الملك.
د ـ نظام الكتبة:
كان هناك كاتب لديوان الرسائل ، واخر لديوان الخراج ، وثالث لديوان الجند ، ورابع لديوان الشرطة ، وخامس لديوان القضاء ، وكان في عهد الأمويين أكبر دواوين الدولة ، ويقوم الموظفون فيه بنسخ أوامر الخليفة ، وإيداعها ديوان الخاتم ، بعد أن تحزم وتختم بالشمع ، ثم تختم بخاتم صاحب الديوان ، وظل ديوان الخاتم من أكبر دواوين الدولة ، منذ أنشأه معاوية ، وحتى أواسط العهد العباسي. وكانت هذه الدواوين تقوم بأعمال وزارة المالية (ديوان الخراج) ، ووزارة الدفاع (ديوان الجند) ، ووزارة الداخلية (ديوان الشرطة) ، ووزارة العدل (ديوان القضاء) ، كما كان ديوان الرسائل يقوم بأعمال السكرتيرية ، وديوان الخاتم يقوم بأعمال السجلات والأرشيف، وكان لكل ديوان موظفوه من الكتبة المتخصصين ، وكان ديوان الخراج يكتب في العراق باللغة الفارسية ، وفي الشام ومصر باللغة الرومية ، وظل كذلك حتى عرّبه عبد الملك بن مروان.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022