الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

الدروس والعبر المستفادة من يوم عاشوراء

الحلقة: الرابعة والثمانون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020

وهو اليوم العاشر من محرم الحرام، وقد ابتدع فيه بدع منكرة، وهلك فيه طائفتان بين إفراط وتفريط؛ طائفة تجعله يوم فرح وسرور، وأخرى يوم حزن ونياحة .
لقد غلت الشيعة في مقتل الحسين رضي الله عنه غلواً مفرطاً، فجعلوا يوم استشهاده رضي الله عنه العاشر من محرم مأتماً وحزناً ونياحة يكررونه في كل عام إلى يومنا هذا، ورتبوا على هذا الفعل الأجر والثواب، فهو جالبٌ للمغفرة والرحمة، مكفر للذنوب والخطايا في زعمهم فقد روى الطوسي في أماليه بسنده عن الرضا عليه السَّلام: أنه قال: من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والاخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه . وبسنده أيضاً: عن أبي عمارة الكوفي قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول: من دمعت عينه دمعة لدم سفك لنا، أو حق لنا أنقصناه، أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا، بوّأه الله تعالى بها في الجنة أحقاباً . وروى البرفي بسنده عن جعفر الصادق: أنه قال: من ذكر عنده الحسين فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر .
وقد بوَّب المجلسي باباً قال فيه: باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء، وساق فيه أكثر من ثمان وثلاثين رواية ؛ منها: ما رواه بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام ،بل زعموا أن السماء والأرض بكت لقتله، فأمطرت السماء دماً وتراباً أحمر، كما بكت الملائكة والجن وسائر المخلوقات .
ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا بتحريم صوم يوم عاشوراء، وأن من صامه فهو عدو للحسين وأهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ، فقد روى الكليني بسنده عن جعفر بن عيسى قال: سألت الرضا عليه السلام عن صوم يوم عاشوراء وما يقول الناس فيه، فقال: عن صوم ابن مرجانة تسألني، ذلك يوم صامه الأدعياء من ال زياد لقتل الحسين عليه السلام، وهو يوم يتشاءم به ال محمد ﷺ، ويتشاءم به أهل الإسلام، لا يصام ولا يتبرك به، ويوم الإثنين يوم نحس قبض الله عز وجل فيه نبيه، وما أصيب ال محمد إلا في يوم الإثنين، فتشاءمنا به وتبرك به ابن مرجانة، وتشاءم به ال محمد ﷺ، فمن صامهما أو تبرك بهما لقي الله تبارك وتعالى ممسوخ القلب، وكان حشره مع الذين سنوا صومهما والتبرك بهما . والأكاذيب في هذا الباب كثيرة.
وهذه الماتم تظهر علناً كلما قويت شوكة الشيعة أو ظهرت لهم دولة؛ ففي دولة بني بويه الشيعية في سنة اثنين وخمسين وثلاثمئة ألزم معز الدولة ابن بابويه يوم عاشوراء أهل بغداد بالنواح على الحسين رضي الله عنه، وأمر بغلق الأسواق، ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الشيعة منشرات الشعور مضمخات الوجوه، يلطمن ويفتن الناس، وهذا أول ما نيح عليه ، كما اتخذت الدولة العبيدية الفاطمية على كثرة أعيادها ومناسباتها يوم عاشوراء يوم حزن ونياحة، فكانت تتعطل فيه الأسواق ويخرج فيه المنشدون في الطرقات، وكان الخليفة يجلس في ذلك اليوم متلثماً يرى به الحزن، كما كان القضاة، والدعاة، والأشراف، والأمراء يظهرون وهم ملثمون حفاة، فيأخذ الشعراء بالإنشاد ورثاء أهل البيت وسرد الروايات والقصص التي اختلقوها في مقتل الحسين  .
ومن مظاهرهم في هذه الأيام خروج المواكب العزائية في الطرقات والشوارع مظهرين اللطم بالأيدي على الخدود والصدور، والضرب بالسلاسل والحديد على الأكتاف حتى تسيل الدماء ، وقد وصف ابن كثير ما يفعل الشيعة من تعدٍّ لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمئة وما حولها، فقال: فكانت الدَّبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويُذَرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين، لأنه قتل عطشان، ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنِّعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في أيامهم .
وقد جوّز علماء الشيعة ما يسمونه بالمواكب العزائية؛ فقد أجاب محمد حسين الغروي النائيني عندما وجهت إليه أسئلة حول المواكب العزائية؛ إذ قال:
-خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرقات والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه، وكونه من أظهر مصاديق ما يقوم به عزاء المظلوم، وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد.
- ـ لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور إلى حد الاحمرار والاسوداد، بل يقوي جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور، بل وإن تأذى من كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناحية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً.
3 ـ الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخاذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون، وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، فهذه الفتوى المعمول بها اليوم لدى الشيعة وعليها الإجماع وقد قرظها أكثر من اثني عشر من علمائهم .
وفي وصف هذه المظاهر يقول ناصر الدين شاه: وفي الهند وباكستان وإيران والعراق تكتسي هذه الماتم حللاً مركبة؛ إذ يخرج الرجال في الطرقات وهم يسيرون وراء هودج قد يبالغون في ارتفاعه حتى يبلغ بضعة أمتار، وهم عراة وفي أيديهم زناجير من حديد وفي رؤوسها شفرات صغيرة حادة يضربون بها صدورهم وظهورهم حتى تسيل الدماء منهم، وفي كثير من الأحيان يموت بعضهم، أما النساء فإنهن يجلسن في دورهن ينحن ويبكين ويلطمن صدورهن بأيديهن، كل هذا تكريماً للحسين الذي قتل مظلوماً بزعمهم .
ويقول السيد محسن الأمين الحسيني العاملي معللاً إقامة الماتم: ونريد بإقامة الماتم البكاء لقتله (عليه السلام) بإخراج الدمع بصوت وبدونه، والتعرض لما يسبب ذلك، وإظهار شعار الحزن والتأسف والتألم لما صدر عليه، وتذكر مصابه، ونظم الأشعار في رثائه، وتلاوتها واستماعها وتهييج النفوس بها للحزن والبكاء .
ولم يكتفوا بذلك؛ يقول الخميني: إن البكاء على سيد الشهداء عليه السلام وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام منذ أربعة عشر قرناً ! فمتى كان البكاء دعوة ؟ ومتى كان العويل جهاداً ؟! فهذا معتقد الشيعة الإمامية في مقتل الحسين، وفي يوم عاشوراء؛ فهل هذا الفعل من الإسلام في شيء؟!
إن الحسين رضي الله عنه بريء من تلك الأفعال المذكورة، لأن الإسلام الذي جاء به جده عليه الصلاة والسلام لا يجوّز تلك الأفعال؛ فقد قال ﷺ: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»، وقال ﷺ: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب» ، وقال ﷺ: «أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة» .
كما أن ما يفعله الشيعة في الحسينيات والماتم تحت مسمى الشعائر الحسينية؛ مثل: اللطم والنياحة ولبس السواد، والتطبير وغيرها، والتي أفتى علماؤهم وعظماؤهم بجوازها؛ فإنها محرمة على لسان الرسول ﷺ وعلى ألسنة أئمة أهل البيت الكرام في المصادر الشيعية القديمة والحديثة، واعترف بهذا التحريم شيوخ وأعلام المذهب الشيعي الاثني عشر ، فهذا محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق قال: من ألفاظ رسول الله ﷺ التي لم يسبق إليها: «النياحة من عمل الجاهلية» . ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: «النياحة عمل الجاهلية» ، فالنوح الذي استمرت عليه الشيعة جيلاً بعد جيل بعد جيل من عمل الجاهلية كما أخبر به النبي ﷺ .
ومن هذه الروايات التي تنهى عما يقترفه الشيعة في الحسينيات ما قاله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: وإياك والنواح على الميت ببلد يكون لك به سلطان ، وقوله: ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال فيها الناس حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم، والطعن في الأنساب، والنياحة على الموتى . ومن الأدلة قول الإمام الباقر: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل، ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه . وقد أنكر ما يحدث من ضرب الرؤوس بالخناجر
والسيوف وإسالة الدماء الشيخ حسن مغنية: والواقع أن ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء ليست من الإسلام في شيء ولم يرد فيها نص صريح، ولكنها عاطفة نبيلة تجيش في نفوس المؤمنين لما أريق من الدماء الزكية على مذابح فاجعة كربلاء ، ولا شك أن هذه الأمور من المنكرات والبدع الشنيعة .
إن الإسلام علمنا اداب المصائب؛ ومقتل الحسين رضي الله عنه مصيبة عظيمة، فمن اداب الإسلام في المصائب:
1 ـ الصبر عليها:
وهذا أعظم ادابها: أن يصبر المؤمن على المصيبة التي تنزل به، ومن هذا الصبر: حبس القلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عمّا يغضب الله تعالى من لطم الخدود، وشق الجيوب وخمش الوجوه، ونتف الشعر والدعاء بدعوة الجاهلية وينبغي أن يكون هذا الصبر عند سماع الإنسان خبر المصيبة لأول مرة وذلك لقوله ﷺ: إنما الصبر عند الصدمة الأولى .
2 ـ احتساب المصيبة والصبر عليها:
فينبغي أن يلتمس الأجر من الله تعالى في هذا الصبر، فيصبر ابتغاء موعود الله من الأجر والثواب، ويصبر لأن الله أمره بالصبر، فقال عز وجل:{ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ١٧}[سورة لقمان:17]، ويتذكر إن فقد عزيزاً لديه، قول النبي ﷺ: «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه؛ إلا الجنة» ، وصفيُّه: أي حبيبه من ولد أو والد أو نحوه. وهكذا فإن الله تعالى وعد بالأجر العظيم على الصبر على المصائب، ولكن بشرط أن يكون الصبر ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال عز وجل:{وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ } [سورة الرعد:22] ، فينبغي أن يكون الصبر لله تعالى، لا صبر المغلوب بل صبر الراضي بقضاء الله، المسلِّم به .
3 ـ الاسترجاع ودعاء المصيبة:
فيقول المـرء عند نزول المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها. فقد قال الله عز وجل:{وَلَنَبۡلُوَنَّكُم بِشَيۡءٖ مِّنَ ٱلۡخَوۡفِ وَٱلۡجُوعِ وَنَقۡصٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٥٥ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةٞ قَالُوٓاْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ ١٥٧} [سورة البقرة:155_157] وقال ﷺ: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم اؤجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها؛ إلا أخلف الله له خيراً منها» ، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟! أول بيت هاجر إلى رسول الله ﷺ. ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله .
ويقول كذلك: الله ربي لا شريك له. فإن ذلك يكشف عنه المصائب والبلاء بإذن الله، وقد قال ﷺ: «من أصابه هم أو غم، أو سقم، أو شدة، فقال: الله ربي لا شريك له؛ كشف ذلك عنه» ، ويدعو كذلك بدعاء المكروب الذي ذكره النبي ﷺ، حيث قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت» ، ويقول كذلك كما كان النبي ﷺ يقول؛ فإنه ﷺ كان إذا كربه أمر قال: «يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث» .
4 ـ اجتناب كل ما يغضب الله:
وذلك من جنس الجهر بالسوء من القول، واللطم، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والنياحة والشكوى إلى الناس، والدعاء بالموت، والويل والثبور وغير ذلك، فهذا كله يغضب الله تعالى، وينافي الصبر على المصائب والرضا بها.
5 ـ تهوين المصيبة على النفس بتذكُّر وفاة النبي ﷺ:
فإن وفاته وانقطاع وحي السماء من أعظم المصائب التي نزلت بالأمة، وبكل مسلم، وإذا تذكر المصاب بمصيبة ما تلك المصيبة العظيمة بوفاة النبي ﷺ، هوَّن ذلك عليه مصيبته التي نزلت به، فإن المصيبة العظيمة لا تهون إلا بالنظر إلى ما هو أعظم منها، وقد قال ﷺ: «إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها من أعظم المصائب» .
6 ـ مشاهدة النعمة في المصيبة:
فمن أدب المسلم مع المصيبة أن يشاهد فيها نعمة الله تعالى، ولئن كان قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ عظيماً وشرّاً كبيراً، فإنه بالنسبة له خير وإكرام؛ يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يـوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية، وأكرم الله تعالى الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته. أكرم بها حمزة وجعفراً وأباه علياً وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنـة، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء كما قال ﷺ لما سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: «الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» . فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما وُلِدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما، ويكرمونهما، ومات النبي ﷺ ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يُلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قُتل شهيداً .
7 ـ تذكر القضاء السابق:
فإن المسلم متى ما أيقن أن هـذه المصائب مكتوبـة، ومقدرة، ومتى ما اسـتحضر في ذهنه أن كل ما قدره الله فهو لابد كائن واقع لا محيد عنه، وأن لله تعالى حكمة في تقدير هذه المصائب، كلما تذكر هذه الأمور هانت عليه المصائب ، قال تعالى:{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٍ ٢٣} [سورة الحديد: 23]
8 ـ رأي ابن تيمية وابن كثير في ما يحدثه الشيعة يوم عاشوراء:
أ ـ قال ابن تيمية: وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي، وما يفضي إلى ذلك من سب السلف الصالح ولعنهم، وإدخال من لا ذنب له في ذوي الذنوب حتى يسب السابقين الأولين، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب وقصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله .
والذي أمر الله به ورسوله ﷺ في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟ فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشور مأتماً، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا .
ب ـ وأما ابن كثير فيقول: فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعُلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله ﷺ التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنُّع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه، وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قُتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب، وهو أفضل من عثمان وعلي، قُتل وهو قائم يُصلّي في المحراب صلاة الفجر وهو يقرأ القران، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه، ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله ﷺ سيد ولد ادم في الدنيا والاخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موته مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد يوم موتهم شيئاً مما ادّعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة؛ مثل: كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك، وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه الحسين بن علي عن جدّه ﷺ: أنه قال: «ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها، فيُحدثُ بها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب بها».
يقول ابن تيمية تعليقاً على هذا الحديث: هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه، وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي ﷺ، وهو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر كيوم أصيب بها المسلمون، وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي ﷺ عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد، مثل: لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية .9 ـ من يتخذ عاشوراء عيداً:
هم من النواصب، والنواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للاعتقاد الصحيح في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان عدم محبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي رضي الله عنهما وغيره؛ فالنصب هو بغض علي رضي الله عنه والنيل منه والانحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً، فالنصب كالرفض؛ لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله ﷺ والنيل منهم بالشتم والسب، وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله، في وجوب حب أصحاب رسول الله ﷺ ومعرفة سابقتهم في الإسلام وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله ﷺ ، فإذا كانت الشيعة اتخذت يوم عاشوراء مأتماً وحزناً اتخذته طائفة أخرى عيداً وموسماً للفرح والسرور، وهم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته رضي الله عنهم، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد والكذب بالكذب والشر بالشر والبدعة بالبدعة، فوضعوا الاثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والاختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح مقابلة لأولئك، وهي بدعة ثانية.
ومما ورد في ذلك من أحاديث موضوعة ومكذوبة ما يلي:
أ ـ حديث: من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سنته .
ب ـ ابتداع صلاة مخصوصة في يومه وليلته: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: من صلى لله يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة واية الكرسي عشر مرات وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة والمعوذتين خمس مرات، فإذا سلم استغفر سبعين مرة، أعطاه الله في الفردوس قبة بيضاء .
وغير ذلك من البدع التي أحدثت في ذلك اليوم، والتي لا أصل لها في دين الله عز وجل .
وقد سئل ابن تيمية عما يفعله الناس في عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور، وعزوا ذلك إلى الشارع؛ فهل ورد عن النبي ﷺ في ذلك حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة ولا عن التابعين لا صحيحاً ولا ضعيفاً، ولا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، وإنما حصلت هذه البدع في يوم عاشوراء، لأن الكوفة كان فيها طائفتان: طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة وإما جهال وأصحاب هوى، وطائفة ناصبة تبغض علياً وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرىْ. فوضعت الاثار في الاحتفال بعاشوراء لما ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة؛ فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً، فوضع أولئك اثاراً تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيداً، وكلاهما باطل. فهؤلاء فيهم بد وضلال، وأولئك فيهم بدع وضلالْ. فمن جعل يوم عاشوراء مأتماً وحزناً ونياحة، أو جعله يوم عيد وفرح وسرور فقد ابتدع في الدين وخالف سنة سيد المرسلينْ.
10 ـ هدي الرسول ﷺ في يوم عاشوراء:
يوم عاشوراء من الأيام الفاضلة التي حث النبي ﷺ على صيامها، فجاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة رضي الله عنه: أنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان فهذا الدهر كله، وصيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي ﷺ يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان ، فالسنة إذاً الصيام في هذا اليوم فحسب، وقد صامه ﷺ وأخبر بفضل صيامه كما في الحديث السابق وأمر بقيامه، فقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة:
أ ـ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله ﷺ صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض رمضان. قال ﷺ: «إن عاشوراء من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه» .
ب ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال قدم النبي ﷺ المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟» قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: «فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه». وعنه أيضاً قال: أمر رسول الله ﷺ: بصوم يوم عاشوراء العاشر .
ج ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله ! يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله ﷺ: «إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع». قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ. وفي رواية «لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع». وعنه أيضاً قال: قال رسول الله ﷺ: «صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، صوموا قبله يوماً وبعده يوماً».
ولقد ذكر العلماء أن صوم يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:
أ ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر لحديث: «صوموا قبله يوماً وبعده يوماً».
ب ـ صوم التاسع والعاشر لحديث: «إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع».
ج ـ إفراده بالصوم؛ أي صوم يوم عاشوراء وحده، للأحاديث الدالة على تأكيد صومه .
فهذا هدي رسول الله ﷺ في يوم عاشوراء، ومن هنا تتجلَّى وسطية أهل السنة والجماعة فلا إفراط ولا تفريط، إنما هو تمسك بهدي الرسول ﷺ وامتثال لأمره رجاء لثواب الله تعالى.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022