الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

أقوال الناس في يزيد وهل يجوز لعنه؟

الحلقة: الثانية والثمانون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020

افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق؛ طرفان ووسط:
فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وإنه سعى في قتل سبط رسول الله ﷺ تشفياً من رسول الله ﷺ، وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي ﷺ بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، واثار جاهلية، وأنشدوا عنه:
لما بدتْ تلك الحمولُ وأشرفتْ
تلك الرؤوسُ على رُبىً جبروني

نعقَ الغرابُ، فقلتُ نحْ أولا تنحْ
فلقد قضيتُ من النبيِّ ديوني

وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزِّبعرى الذي أنشده يوم أحد:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا
جزعَ الخزرج من وقْع الأسَلْ

قد قتلنا الكثيرَ من أشياخهم
وعدلناه ببدرٍ فاعتَدلْ

وأشياء من هذا النمط وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل.
والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي ﷺ، وحمله على يديه وبرّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً، ويقولون عن الشيخ عدي أو حسن المقتول ـ كذباً عليه ـ: إن سبعين ولياً صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد، وهذا قول غالية العدوية.. ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عدياً كان من بني أمية وكان رجلاً صالحاً عابداً فاضلاً، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة، والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر.
وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة .
والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين.
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الاخر؟ فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحداً ؟!. وقال: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل، قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله ﷺ وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ فقال: لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلي وغيره . وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ، وقال ابن تيمية: وبلغني ـ أيضاً ـ أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها، وأما ترك سبه ولعنه فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريماً، وإما تنزيهاً. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة (حمار) الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة، قال النبي ﷺ: «لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله» . وقال: «لعنُ المؤمن كقتله» .
هذا مع أنه قد ثبت عن النبي ﷺ لعن عموماً شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين، وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار، لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضيِ لمعارض راجع: إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وإما غير ذلك .
ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنه مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة، وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس واحداً منهم، وقد قال النبي ﷺ: «المرء مع من أحب» ، ومن امن بالله واليوم والاخر، لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين. ولترك المحبة مأخذان:
أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقي واحداً من الملوك المسلطين، ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسق أعتقد تأويلاً.
والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته من أمر الحسين وأمر أهل الحرة .
وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج الجوزي، والكيا الهراسي وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنه، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه، ... وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله ﷺ أنواعاً من أهل المعاصي، وأشخاصاً من العصاة، وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة ماخذ للعنه .
وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان:
أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطئ، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد.
والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ قال: «أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له» . وأول جيش غزاها كان أميره يزيد.
والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين؛ فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب .
وأما جواز الدعاء للرجل وعليه... فإن موتى المسلمين يُصلى عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية رحمه الله مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخاطبات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه، ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه، فقال: أفلا تلعنوهُ ؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال الله في القرآن:{ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٨} [سورة هود:18] ، ولا نحب أن نلعن أحداً بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن، وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت: محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم، قال: خطبنا رسول الله ﷺ بغدير يدعى خمّاً، بين مكة والمدينة فقال: «أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله ـ فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: ـ وعترتي أهل بيتي»
قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلِّ على محمد، وعلى ال محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى ال محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد: وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبياً، ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون عليه .
وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية وأفسحت المجال للنيل من بني أمية ، وأما الحديث الذي ورد مرفوعاً: «لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد»، فهو حديث غير صحيح، لأن فيه أكثر من علة ، فقد رواه أبو يعلى في مسنده من طريق صدقة السمين، عن هشام، عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً وفيه علتان:
أ ـ ضعف صدقة السمين، وهو: أبو معاوية، صدقة بن عبد الله السمين، الدمشقي، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وقال أحمد: ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل وهو ضعيف جداً، وقال أيضاً: ليس يسوى شيئاً، أحاديثه مناكير، وقال الدّارقطني: متروك .
ب ـ أن هناك انقطاعاً بين مكحول وأبي عبيدة؛ لأنه لم يدركه .
وقد تحدث ابن كثير عن الأحاديث في ذم يزيد فقال: وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذمّ يزيد بن معاوية؛ كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022