الخميس

1446-10-26

|

2025-4-24

من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)

(بيعة ابن الزبير بالخلافة)

الحلقة: الخامسة والتسعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020

بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك من خليفة، وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية فإن هذا لا يكفي للبيعة، إذ لا بيعة دون شورى، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها وأعيان بني كلب. هذا مع أن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً وترك الأمر شورى ولم يستخلف أحداً، ولم يوصِ إلى أحد.
وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قد بويع له في الحجاز، وفي العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضاً إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضاً بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي ، وهكذا تمّت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام وأصبح الخليفة الشرعي ، وعين ابن الزبير نوّابه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة للمسلمين.
ولذلك صرّح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم ، فيروي ابن عبد البر عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك . ويقول ابن كثير: ثم هو ـ أي ابن الزبير ـ الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم ؛ حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الافاق وانتظم له الأمر ، ويؤكد كل من ابن حزم والسيوطي شرعية ابن الزبير، ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه خارجين على خلافته، كما يؤكد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين .
1 ـ بيعة ابن الزبير بالحجاز:
كان من الطبيعي أن يكون الحجاز أول المناطق خضوعاً وولاء لبيعة ابن الزبير لكونه مركز المعارضة ضد بني أمية، وقد سارع أهل الحجاز إلى مبايعة ابن الزبير، ويروي ابن سعد أن من الأوائل الذين سارعوا إلى مبايعة ابن الزبير: عبد الله بن مطيع العدوي، وعبد الله بن رضوان بن أمية الجمحي، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبيد بن عمير، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر وكان هناك بعض العناصر الذين امتنعوا عن بيعة ابن الزبير؛ وعلى رأسهم ثلاث شخصيات لها مكانتها وتأثيرها لاسيما في الحجاز وهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومحمد ابن الحنفية، وتكاد تجمع المصادر أن أياً من هؤلاء لم يبايع ابن الزبير طيلة حياته .
أ ـ موقف ابن عمر من بيعة ابن الزبير:
بايع ابن عمر يزيد بالخلافة، والتزم ببيعته، وحاول إقناع ابن الزبير بذلك، ونهاه عن إثارة الفتنة والخروج على خلافة يزيد ، وبعد وفاة معاوية بن يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة، وطلب من ابن عمر أن يبايع له، فرفض ابن عمر البيعة معللاً ذلك بقوله: لا أعطي صفقة يميني في فرقة ولا أمنعها في جماعة . ولم يحاول ابن الزبير إجبار ابن عمر على البيعة، كما أن المصادر لم تُشِر إلى أي صدام أو مواجهة وقعت بين الاثنين .
وكان لامتناع ابن عمر عن بيعة ابن الزبير تأثير سلبي، فقد كان ابن عمر يتمتع بمكانة عالية وبالأخص في الحجاز، وكان تأثيره على الناس كبيراً، فامتناعه عن البيعة يجعل البعض يقتدي به ويتخذ نفس الموقف، ومما يزيد من تأثيره السلبي على حركة ابن الزبير أن ابن عمر كان يجبر من له طاعة عليهم أن يتخذوا الموقف نفسه الذي يتخذه، ومع كل ذلك فلم يكن ابن عمر يشكل خطراً حقيقياً على ابن الزبير؛ فهو لم يكن ذا طموح للخلافة، كما أنه لا يملك أتباعاً يستطيع أن يواجه بهم ابن الزبير كما هو الحال عند محمد ابن الحنفية .
ب ـ ابن عباس وبيعة ابن الزبير:
كان ابن عباس يختلف عن ابن عمر في مواقفه إزاء الفتن التي جرت في عصره، حيث خاض فيها وشهد مع علي صراعه ضد خصومه في موقعتي الجمل وصفين، ولما جاء الأمويون للحكم واستخلف معاوية يزيد، بادر ابن عباس إلى بيعته، والتزم بها، ولم يعرف أنه أيّد ابن الزبير الذي رفض البيعة، وفي نفس الوقت لم يعلن عداءه لابن الزبير، وبدأت العلاقة بين الاثنين تدخل طوراً جديداً بعد وفاة يزيد بن معاوية؛ حيث بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64 هـ، وعندما طلب ابن الزبير من محمد ابن الحنفية وابن عباس المبايعة قالا: حتى تجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس ، ووعداه بعدم إظهار الخلاف له لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إجبارهما على البيعة.
وبدأت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس في تحسن، تلمس ذلك في العديد من الروايات التي تدلل على شعور ابن عباس تجاه ابن الزبير والمتمثل في تأييده لبعض مواقفه ، أو في الثناء المباشر عليه ، ويروي عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان قاضياً لابن الزبير بمكة، إلا أن العلاقة بينهما تعكرت، وقد وردت عدة روايات تدل على مظاهر تردِّي العلاقة بين الاثنين، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن نطاق المناقشات الحادة . ونظراً لتوافق ابن عباس مع محمد ابن الحنفية في رفض بيعة ابن الزبير وتنامي خطر الأخير فقد انتهى الأمر بخروج ابن عباس إلى الطائف وبقي هناك إلى أن توفي .
وكان ابن عباس يثني على ابن الزبير، فعندما ذكر عنده قال ابن عباس: قارأى لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه أسماء، وجده أبو بكر، وعمّتُه خديجة، وخالته عائشة، وجدّته صفية .
ج ـ ابن الحنفية وبيعة ابن الزبير:
كان المبدأ الذي صرح به ابن الحنفية بعد وفاة يزيد أن لا يبايع أحداً إلا في حالة اجتماع الناس عليه ، لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إكراه ابن الحنفية على البيعة، ولم يستمر ابن الزبير في سياسته اللينة مع ابن الحنفية، فبعد أن علا شأن ابن الزبير وجاءته بيعة الأمصار، وكادت الأمة أن تجتمع عليه، أحس أن الوقت قد حان لأن يبايع ابن الحنفية بناء على وعده، فعاود الكرّة مرّة أخرى ودعاه إلى البيعة سنة 65 هـ، ولكن ابن الحنفية أبى أن يبايع، فلجأ ابن الزبير إلى حبسه في الشعب .
ويبدو أن ابن الزبير تخوّف من دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي بالكوفة، فقد كان المختار من أشد المدافعين عن ابن الزبير أيام حوصر في مكة سنة 64 هـ من قبل جيش الحصين بن نمير السكوني، وكان المختار بالإضافة إلى شجاعته وجرأته يتمتع بمكر ودهاء كبيرين، ويحمل بين جنبيه طموحات عالية للزعامة ، لم يجد المختار عند ابن الزبير ما يحقق طموحاته، فأخذ يبحث عن مكان اخر يمكن أن يحقق فيه ما تصبو نفسه إليه، فترك مكة بعد ستة أشهر من نهاية الحصار الأول ووصل العراق في رمضان سنة 64 هـ، واستطاع عن طريق ادعائه نصرة ال البيت ورفع شعار الأخذ بثأر الحسين أن يجتمع حوله الأنصار والمؤيدون والناقمون على حكم بني أمية، واستطاع أن يستولي على الكوفة، وكان المختار على علم بما جرى بين ابن الزبير وابن الحنفية في أمر البيعة، وأراد أن يستغل هذا الموقف لصالحه، وادعى أنه موفد من محمد ابن الحنفية للأخذ بثأر ال البيت، والواقع أن ابن الحنفية تبرأ من المختار وأنكر أن يكون قد أرسله إلى العراق ، ودعت الشيعة بالكوفة إلى ابن الحنفية، فخاف ابن الزبير أن تفتح بذلك جبهة جديدة عليه مما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً ، وأرسل المختار جيشاً في عام 66 هـ إلى مكة في موسم الحج، واستطاع أن يخلص ابن الحنفية من سجنه، ومنع ابن الحنفية الجيش من قتال ابن الزبير لكونه لا يستحل القتال في الحرم .
والواقع إن ابن الحنفية أصبح يشكل خطراً على ابن الزبير بعد وصول نجدة العراق، وتروي المصادر أنه كان لابن الحنفية لواء في الحج ينافس فيه لواء ابن الزبير ، أما بالنسبة لابن الزبير فقد أحس أن مصدر قوة ابن الحنفية يكمن في مساندة المختار بن أبي عبيد له، ولذلك فكر في القضاء عليه، فأرسل أخاه مصعباً والياً على البصرة، وأمره أن يقاتل المختار، وفعلاً استطاع مصعب بن الزبير أن يقضي على المختار في الرابع عشر من رمضان سنة 67 هـ .
أدى مقتل المختار إلى تضعضع موقف ابن الحنفية بمكة، ويروي ابن سعد أن ابن الزبير أرسل إلى ابن الحنفية أخاه عروة يطلب منه أن يبايع، وهدده بالحرب إن هو أصر على رفض البيعة . ولاحت لابن الحنفية في هذه الأثناء فرصة رأى فيها مخرجاً من ضغوط ابن الزبير؛ تمثلت في دعوة عبد الملك بن مروان له بأن يقدم إلى الشام، فاغتنم ابن الحنفية هذه الفرصة وتوجه إلى الشام هو وأتباعه، واختاروا المقام بأيلة ، وهذه البلدة وإن كانت من بلاد الشام منطقة نفوذ عبد الملك بن مروان إلا أنها في أطرافها نحو الحجاز، وأصبح تقريباً في منطقة بعيدة عن الاثنين معاً، ولكن اتضح أن نوايا عبد الملك لم تكن تختلف عن نوايا ابن الزبير، فعرض عليه البيعة مقابل أموال وأعطيات سخية أو الخروج من بلاد الشام، واثر ابن الحنفية الخروج على البيعة؛ حيث اشترط ذلك على ابن الزبير من قبل. وأراد ابن الحنفية العودة إلى مكة، ولكن ابن الزبير منعه من دخولها، فتوجه بمن معه إلى الطائف، وقيل: المدينة، وبقي بها إلى أن قتل ابن الزبير سنة 72 هـ .
2 ـ بيعة ابن الزبير في العراق:
أدت وفاة يزيد بن معاوية إلى اضطراب الوضع في العراق، ونشوب النزاع بين قبائله المختلفة حول السلطة، وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، وخرج الخوارج قبل هروبه من السجن، وبدؤوا بإشاعة الفوضى والفساد، وبعد فتن وقتال اتفقت القبائل بالبصرة على أن يتولى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الأمر ، ثم شرع ابن الزبير في تعيين نوابه بعد بيعة أهل البصرة له، إلى أن استقر على ولايتها أخوه مصعب، وعين أهل الكوفة عامر بن مسعود بن خلف القرشي ، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقره. وهذا التصرف يعد في حقيقته إقرار أهل الكوفة بخلافة ابن الزبير ، وتعامل أهل البصرة وأهل الكوفة مع ابن الزبير، كخليفة للمسلمين .
وقد ساعدت عوامل عديدة على نشر بيعة ابن الزبير بالعراق، من أهمها: الفراغ السياسي في السلطة، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وهروب عبيد الله بن زياد إلى الشام، كما أن التنافس القبلي على السلطة، واشتداد شوكة الخوارج وتهديدهم للأمن ساهم في حث أهل العراق على توحيد كلمتهم والانضواء تحت لواء ابن الزبير .

3 ـ بيعة ابن الزبير في الشام:
بعد وفاة معاوية بن يزيد وفي منـاخ الشام المشوب بالفوضى والاضطراب وجدت بيعة ابن الزبير منفذاً لها في بلاد الشام، لا سيما وأن أخبار صمود ابن الزبير أمام جيش الحصين ابن نمير في الحصار الأول، وبيعة أهل الحجاز له، قد تنامت إلى بلاد الشام، ويصور لنا البلاذري موقف أهل الشام من بيعة ابن الزبير في تلك الظروف فيقول: فلما مات معاوية بن يزيد مال أكثر الناس إلى ابن الزبير، وقالوا: هو رجل كامل السن، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وهو ابن حواري رسول الله ﷺ، وأمه بنت أبي بكر بن أبي قحافة، وله فضل في نفسه ليس لغيره، وتكاد تجمع المصادر على بيعة جميع أقاليم أهل الشام ما عدا الأردن، فقد بايع زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين، وبايع النعمان بن بشير الأنصاري بحمص، واستطاع نائل بن قيس الجذامي أن يسيطر على فلسطين ويدعو فيها لابن الزبير، ودعا الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير في دمشق ، وعين ابن الزبير الضحاك بن قيس والياً على الشام ، هذه أهم الأقاليم التي بايعت ابن الزبير.
4 ـ موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير:
تحالف الخوارج مع ابن الزبير في الدفاع عن مكة حتى وفاة يزيد، فلما زال الخطر، دخل عليه قادتهم فأرادوا معرفـة رأيـه في عثمـان بن عفان رضي الله عنـه، فأجابهم فيه بما يسوءهم وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان، والسِّيرة الحسنة، والرُّجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا منه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر؛ لأنها مفرّعة على الجهل وقوة النُّفوس والاعتقاد الفاسـد، ومع هـذا استحوذوا على كثير من البُلدان ، وتصدّى لقتالهم الفارس الهمام، البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، فقد كتب ابن الزبير له بأن يتولى حربهم فاستجاب لذلك، وكـان على رأس الخوارج الأزارقـة نافع بـن الأزرق، واستطاع المهلب أن يهزمهم وقتل أميرهم نافع بن الأزرق وانهزمت الخوارج نحـو فارس ، وتسربت شـائعـات إلى أهل البصرة بأن المهلب قتـل، فاضطرب المصر وهمّ أميرهم الحـارث بن أبي ربيعة أن يهرب، وأقبل البشير إلى أهل البصرة بسلامـة المهلّب، فاستبشروا بذلك واطمأنّوا وأقام أميرها بعد أن همّ بالهرب، وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة من الهرب، فعزله وولى أخاه مصعباً، فسار مصعب حتى قدمها وتولَّى أمر جميع العراقين وفارس والأهواز، ومما قيل من الأشعار في قتال المهلب للخوارج الأزارقة:
إنّ ربّاً أنجى المهلَّبَ ذا الطَّوْلِ
لأهلٌ أن تحمدُوه كثيرا

لا يزالُ المهلّبُ بنُ أبي صفرةَ
ما عاشَ بالعراقِ أميرا

وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:
إنْ ماتَ غيرُ مداهنٍ في دينِهِ
ومتى يمرُّ بذكرِ نارٍ يُصعقُ

والموتُ أمرٌ لا محالةَ واقعٌ
مَنْ لا يصبِّحُه نهاراً يطرقُ

فلئِنْ مُنينا بالمهلَّبِ إنّهُ
لأَخو الحروبِ وليثُ أهلِ المشرق

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022