من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
عبد الله بن الزبير: اسمه ونسبه وكنيته ونشأته
الحلقة: الثالثة والتسعون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، أمير المؤمنين، أبو بكر، وأبو خبيب، القرشي الأسدي المكي، ثم المدني، أحد الأعلام، ولد حواري رسول الله وابن عمته .
ثانياً: مولده ومبايعته لرسول الله ﷺ:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة، قالت: فخرجت وأنا مُتمٌّ فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله ﷺ، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله ﷺ، ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً؛ لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم . وسماه عبد الله. ثم جاء بعد وهو ابن سبع، أو ابن ثماني سنين، يبايع النبي ﷺ، أمره الزبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النبي ﷺ حين راه مقبلاً، وبايعه.
وكان أول من ولد في الإسلام في المدينة بعد مقدم رسول الله ﷺ، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم، فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبّر أصحاب رسول الله ﷺ حين ولد عبد الله ، وقد طاف به الصديق رضي الله عنه بالمدينة بعد ولادته ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود ، وهذا أسلوب إعلامي عملي للقضاء على شائعات اليهود التي روجوا لها بالمدينة.
وكان ابن الزبير ملازماً للدخول على رسول الله ﷺ لكونه من إله، فكان يتردد إلى بيت خالته عائشة زوج الرسول ﷺ.
ثالثاً: الزبير بن العوام والد عبد الله رضي الله عنهما:
هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي، ويجتمع مع النبي ﷺ في قصي، وهو حواري رسول الله ﷺ وابن عمته، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد أصحاب الشورى ، أسلم وهو حدث وله ستة عشر سنة ، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله ﷺ ، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روي أن عم الزبير، كان يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً .
وقال في حقه رسول الله ﷺ: «لكل نبي حواريٌّ، وحواريَّ الزبير» . أي: خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام، أي: خُلَصاؤه وأنصاره، فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت من ولد الزبير، وإلا فلا .
وكان الزبير بن العوام في عهد رسول الله ﷺ رجل المهمات الصعبة، وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة وشارك في فتوحاتها الكبيرة ، وقد عرض عليه عمر بن الخطاب ولاية مصر في عهده فقال الزبير: لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً، فإن وجدت عمرو بن العاص فتحها (مصر) لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطتُ به، وإن وجدته في جهاد كنت معه . وقد تحدثت عن سيرته في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ فمن أراد المزيد فليرجع إليه مشكوراً .
رابعاً: أسماء بنت الصديق والدة ابن الزبير رضي الله عنهم جميعاً:
هي أسماء بنت عبد الله بن أبي قحافة بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ، وكانت من أوائل المسلمات؛ حيث أسلمت وأختها عائشة وهي يومئذ صغيرة . ولها مواقف مشهودة، وآثار محمودة في تاريخنا الإسلامي المجيد، ومن هذه المواقف:
1 ـ في الهجرة النبوية:
قالت السيدة عائشة في حديث طويل منه: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، عند الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ... إلى أن قالت: ...فجهزناهما أحث الجهاز (من الحثّ وهو الإسراع) ووضعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بذات النطاقين .
فقد أسهمت السيدة أسماء رضي الله عنها في تموين الرسول ﷺ وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: لما خرج رسول الله ﷺ، وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً ـ فلطم خدّي لطمة، طرح منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا ، فهذا درس من أسماء والدة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، تعلّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم.
وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله ونفسه. قالت: كلا يا أبت، إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فأخذتُ أحجاراً، فوضعتها في كوَّةٍ في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيدهِ، فقلت: يا أبتِ ! ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، قالت: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك . وبهذه الفطنة، والحكمة، سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها، لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً، وثقة به لا حد لهما، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها ، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره، لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمسِّ الحاجة إلى الاقتداء به والنسج على منواله .
2 ـ صلة أسماء لأمها المشركة:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد رسول الله ﷺ، فاستفتيت رسول الله ﷺ، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك ، قال ابن حجر: وفي قولها: وهي راغبة؛ أقوال، والذي عليه الجمهور من هذه الأقوال أنها قدمت طالبة من بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة.
وفي هذا الحديث من الفوائد ما ذكره الخطابي: إن الرحم الكافرة توصل بالمال ونحوه كما توصل المسلمة ؛ وقد قال تعالى:{لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩} [سورة الممتحنة:9] وهاتان الآيتان رخصة في الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة .
3 ـ شجاعتها وجهادها في اليرموك مع زوجها:
وأما شجاعتها وجراءتها وجهادها في سبيل الله فأمر يفوق الخيال: فمن ذلك خروجها مع الجيش يوم اليرموك، فلقد شهدت اليرموك مع زوجها الزبير وابنها عبد الله ، ومن شجاعتها استعدادُها التام لمواجهة اللصوص الذين كثروا في يوم من الأيام بالمدينة، عن فاطمة بنت المنذر: أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص، أي في زمن إمارته المدينة وكانوا قد كثروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها .
4 ـ علاقتها بالقرآن الكريم:
كانت رضي الله عنها قد تربت على كتاب الله وهدي النبي ﷺ، وإليك هذه الصورة المشرقة من حياتها مع القران الكريم، فذات يوم دخل عليها ابنها وهي تُصلي، فسمعها تقرأ هذه الآية: {فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا وَوَقَىٰنَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ ٢٧} [سورة الطور:27] فبكت واستعاذت... فقام وهي تستعيذ. فلما طال عليه أتى السوق وقضى منه حاجته.. ثم رجع فوجدها ما تزال في بكائها تستعيذ .
وكانت إذا أُصيبت بالصُّدَاع تضع يدها على رأسها وهي تقول: بذنبي، وما يغفر الله أكثر. وهذا فهم عميق لقول الله تعالى:{ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ } [سورة الشورى:30] وقد أفرد الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ رساله قيمة في حياة السيدة أسماء رضي الله عنها، وسيأتي الحديث عن بعض الدروس والعبر في حصار الحجاج لابنها عبد الله بمكة بإذن الله.
خامساً: أولاد ابن الزبير وزوجاته:
كان له من الولد خُبيب وحمزة وعباد وثابت، وأمهم تماضر بنت منظور الفزاري، وهاشم وقيس وعروة ـ قتل مع أبيه ـ والزبير، وأمهم أم هاشم بنت حلة بن منظور، وعامر وموسى وأمّ حكيم وفاطمة وفاختة، وأمهم جثيمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبكر ورقية، وأمهم عائشة بنت عثمان بن عفان، وعبد الله ومصعب من أم ولد .
سادساً: ابن الزبير في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم:
1 ـ في اليرموك:
لا نجد في كتب السيرة أي خبر عن اشتراك عبد الله بن الزبير في الحروب والغزوات رغم حضوره مع والده غزوة الأحزاب وفتح مكة، فقد كان في مقتبل العمر ولم يتجاوز عمره عند وفاة الرسول ﷺ إحدى عشر سنة. وكان الرسول ﷺ لا يجيز أحداً من الغلمان لم يبلغ الخامسة عشرة، وأول ما يرد من أخبار تتعلق بخروجه مع الجيوش، ومرافقته لوالده في تحرير بلاد الشام وحضوره معركة اليرموك؛ إذ يقول عبد الله: كنت مع أبي عام اليرموك، فلما تعبَّأ المسلمون للقتال، لبس الزبير لأمته ثم جلس على فرسه ثم قال لموليين له: احبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير . وبعد انتهاء القتال شارك عبد الله في علاج الجرحى بعد انهزام المشركين ، وإن لم يشارك في القتال لصغر سنه فإنه ألف القتال والعراك وصليل السيوف منذ نشأته، مما زاد في شجاعته وخبرته العسكرية .
2 ـ ابن الزبير مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم:
مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن الزبير يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف ابن الزبير فقال له عمر: ما لك لم تفر معهم ؟! فقال: لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك ، وتروى المصادر حادثة أخرى تبين شجاعته منذ صباه الباكر، فقد ذكرت المصادر التاريخية أنه كان ذات يومٍ يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر بهم رجل، فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقرى وقال: يا صبيان اجعلوني أميركم، وشدّوا بنا عليه، ففعلوا .
3 ـ كتابة المصاحف في عهد عثمان:
عن أنس: أن عثمان أمر زيداً، وابن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ، ومن أراد التفصيل في جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه للمصاحف فليراجع كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
4 ـ جهاده في شمال إفريقية في عهد عثمان رضي الله عنه:
انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، فسيّر إليهم عبد الله بن الزبير في جماعة ليأتيهم بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم، وأقام معهم، ولمّا وصل كثر الصِّياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففتَّ ذلك في عضده، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كلّ يوم من بكرة إلى الظُّهر، فإذا أُذِّن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن سعد معهم، فسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد، فله مئة ألف دينار، وأزوِّجه ابنتي، وهو يخاف، فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير، نفّلته مئة ألف، وزوّجته ابنته، واستعملته على بلاده، ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله .
ثمّ إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون، ونقصدهم على غرّة، فلعلَّ الله أن ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصّحابة، واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلمَّا كان الغد، فعل عبد الله ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مُسَرَّجة، ومضى الباقون، فقاتلوا الرّوم بالانصراف على العادة، فلم يمكنهم ابن الزُّبير، وألح عليهم بالقتال، حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم والمسلمون، فكلا الطائفتين ألقى سلاحه، ووقع تعباً، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين، وقصد الرّوم، فلم يشعروا بهم حتى خالطهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبَّروا، فلم يتمكن الرّوم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون، وقُتل جرجير قتله ابن الزبير، وانهزم الرّوم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونزل عبد الله بن سعد المدينة، وحاصرها حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة الاف دينار، وسهم الرَّاجل ألف دينار.
ولما فتح مدينة سبيطلة، بثَّ جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقية. ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك، وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية .
قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وعن أبيه وأصحابهما أجمعين.
وكان الشاعر أبو ذؤيب الهذلي قد خرج مع ابن الزبير في مغزّى نحو المغرب ـ في عهد عثمان ـ فمات، فدلاّه عبد الله بن الزبير في حفرته وقد قال الشاعر أبو ذؤيب في تلك الغزاة في عبد الله بن الزبير:
وصاحبِ صدقٍ كسيِّدِ الضَّرَاءِ
ينهضُ في الغزوِ نهضاً نجيحا
وشيكِ الفصولِ بطيِّ القفولِ
إلا مشاحاً به أو مُشِيحا
5 ـ دفاعه عن عثمان يوم الدار:
كان ابن الزبير من الذين كانوا مع عثمان بن عفان يوم حُصر من قبل الغوغاء، وكان يلح على عثمان أن يسمح له بقتال الغوغاء، ولكن عثمان كان يرفض ذلك ، ولما أمر عثمان من في الدار بالخروج أصرَّ ابن الزبير ومروان بن الحكم على البقاء معه والدفاع عن ، وقد أصيب ابن الزبير أثناء الحصار بإصابات بالغة كادت تودي بحياته، فقد روى المدائني أن كنانة ـ مولى صفية بنت حيي ـ أخرج أربعة محمولين؛ وكان ابن الزبير منهم .
وكان ابن الزبير يخطب بمكة ويقول في خطبته: فجرحت بضعة عشر جرحاً، وإني لأضع يدي اليوم على تلك الجراحات التي جرحت مع عثمان، فأرجو أن تكون خير أعمالي ، وفي هذا وضوح موقف ابن الزبير من عثمان وأنه يراه إمام حق ورشد وأن المعتدين عليه مجرمون وأن قتالهم من أفضل الأعمال عند الله، ومنها نستفيد: أن الدفاع عن أولياء الله الصالحين بأي وسيلة شرعية من الذبِّ عن أعراضهم وشدّ أزرهم من الأعمال الصالحة.
ومما يدل على أهمية الدور الذي كان يقوم به ابن الزبير في الذود عن عثمان ما ذكرته الروايات من أن عثمان أمّر ابن الزبير يوم الدار، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير . وفي رواية: أنه أمره أن يصلي بأهل داره فترة الحصار، وكان ابن الزبير يصلي بهم في صحن الدار .
6 ـ في معركة الجمل:
كان ابن الزبير يوم الجمل على الرجّالة، وجُرح يومئذ تسع عشرة جراحة، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتَّحدا، فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن الأشتر من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي ويقول: اقتلوني ومالكاً، واقتلوا مالكاً معي ؛ فأرسلها مثلاً، ثم تفرَّقا ولم يقدر عليه الأشتر، وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضعاً وأربعين جراحة ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لمن بشَّرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم، وسجدت لله شكراً وقد كانت تحبه حباً شديداً، لأنَّه ابن أختها، وكان عزيزاً عليها، وقد رُوِيَ عن عُروة: أنّه قال: لم تكن عائشة تحب أحداً بعد رسول الله ﷺ وأبي بكر مثل حُبِّها عبد الله بن الزبير، وقال عروة: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير .
7 ـ جهاده أيام معاوية رضي الله عنهما:
تولى أمر إفريقية معاوية بن حديج، فكان عبد الله بن الزبير ساعده الأيمن بالفتح والجهاد، وقد سار معاوية بن حديج في جيش قوامه عشرة الاف مقاتل، وفتح بنزرت سنة إحدى وأربعين، كما دخل (القيروان) سنة خمس وأربعين، وبث السرايا في البلاد، وبعث إلى (سوسة) عبد الله بن الزبير ففتحها .
وكان عبد الله بن الزبير كذلك في جيش يزيد بن معاوية الذي سار نحو القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش عدد من الصحابة أيضاً؛ منهم: أبو أيوب الأنصاري، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وابن عباس .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com