من كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار (ج1)
(حركة عبد الله بن الزبير في عهد يزيد بن معاوية)
الحلقة: الحادية والتسعون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ ديسمبر 2020
كان ابن الزبير رضي الله عنهما قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد، واختار الذهاب والاستقرار بمكة.
أولاً: أسباب اختيار ابن الزبير لمكة:
اجتمعت عدة أسباب جعلت مكة أنسب مكان يمكن أن يتجه إليه ابن الزبيرـ في نظره ـ؛ ومن أهمها ما يلي:
1 ـ أنها المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة؛ وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليست مناسبة، فالعراق ـ بمصريه الكوفة والبصرة ـ لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين خير دليل على ذلك، وكان ابن الزبير يعي ذلك تماماً حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق : أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟! أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم، وأما الشام فكما هو معروف كانت معقل الأمويين.
2 ـ إن مكة ـ لوجود بيت الله فيها ـ كانت بلداً حراماً ولا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمن يعتصم بها حماية من القتل إلا إذا ارتكب حدّاً يوجب ذلك، وعلى أقل تقدير فوجود هذا الحكم الخاص بمكة يجعل التفكير باستخدام القوة هو اخر حل يُلجأ إليه.
3 ـ وكما أن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين؛ فإن من يتعرض له بالإيذاء سيواجه معارضة من قبل العديد من المسلمين الذين سيهبون للدفاع عن بيت الله الحرام بغض النظر عمن يعتصم به، وقد أفاد ابن الزبير من هذه النقطة كثيراً.
4 ـ أنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف من المسلمين من مختلف الأقاليم، ويمكن من خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم.
5 ـ أن مكة بدأت منذ هجرة النبي ﷺ والصحابة إلى المدينة تفقد دورها السياسي، وبالتالي فإن قبضة الأمويين عليها لم تكن قوية، بعكس وضع المدينة.
6 ـ وأخيراً فإن معارضة ابن الزبير مرتبطة بأهل المدينة الذين يقفون معه الموقف نفسه ضد بني أمية، وبالتالي كان من المناسب أن يكون ابن الزبير قريباً من المدينة ليضمن استمرار تأييد أهلها له، ولكي يتمكَّن من الاتصال المستمر بهم .
ثانياً: أسباب خروج ابن الزبير ومن معه:
كان مقصد ابن الزبير رضي الله عنهما ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم؛ هو تغيير الواقع بالسيف لمَّا رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، ولما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله وليس كما يقول البعض، مثل محمد ماهر حمادة عندما قال: وعلى الرغم من أن حركة ابن الزبير لم تكن سوى مزيج عجيب، من عدد من العناصر، يحركها طموح شخصي، وصراع قبلي، التقتا في نفس ابن الزبير، وشخصيته .
لقد كان رضي الله عنه يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى، ويتولى الأمة حينئذ أفضلها، وكان يخشى من تحول الخلافة إلى ملك، وكان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله، ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة، ولهذا لم يدعُ لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية . وكان ابن الزبير يخطب ويقول: والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا ألتمس جَمْع مالٍ ولا ادخاره ، وكان يقول: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فاثبني ثواب المجاهدين وقال عبد الله بن صفوان بن أمية لابن الزبير: إني والله ما قاتلت معك إلا عن ديني ... والروايات في هذا المجال كثيرة جداً، وهي تدل على النظرة الحقيقية لمعارضة ابن الزبير، وكذلك أهل المدينة حيث اعتبروها جهاداً في سبيل الله، إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة رضي الله عنهم كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة؛ منها:
1 ـ دفاعاً عن حقهم الذي جعله الله لهم: {وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ } [سورة الشورى:38]
2 ـ أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته.
3 ـ تمسكاً بالسنة وهدي الخلفاء الراشدين في باب الخلافة .
وساعد في تحقيق أهداف ابن الزبير والتفاف الناس من حوله عدة أمور؛ منها: ردة الفعل الذي أحدثتها معركة كربلاء، سوء سيرة يزيد، سرعة يزيد في عزل ولاة الحجاز؛ وهو مركز الثقل السياسي كما كان زمن الرسول والخلفاء الراشدين .
ثالثاً: الجهود السلمية التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير:
كان ابن الزبير يدرك الخطورة التي ستلحق بالحسين إذا خرج إلى الكوفة، ولذا ناشده عدم الذهاب إلى الكوفة؛ قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟!. وكان ابن الزبير يدرك أن الحسين إذا أصيب في العراق، فإن النتائج ستنعكس عليه، وسيكون المنفرد في الساحة، وبالتالي يسهل القضاء عليه، وقد حرص ابن الزبير على إشعار الحسين بمكانته، وأن وجوده في مكة يحظى بالتأييد من أهلها وبالأخص من ابن الزبير نفسه، ولذا فقد بادره بفكرة جريئة، فقال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت، فوليت هذا فازرناك وساعدناك ونصحنا لك، وبايعناك.
ويبدو أن ابن الزبير رغب أن تكون القيادة العامة بيد الحسين نظراً لمكانته ووجاهته، واحترام المسلمين له. ويكون بيده التخطيط لمجابهة يزيد بن معاوية، وبالأخص أنه يملك رصيداً كبيراً من المشاركات الحربية الناجحة في عمليات الجهاد الإسلامي، وكان يرغب في جعل ركيزة الانطلاق في المعارضة هي بلاد الحجاز، وذلك نظراً لصدق أهلها، ووجود العباد والصالحين والعلماء من الصحابة وكبار التابعين بها، ثم وجود الحرمين ومكانتهما، فإذا تمت لهما السيطرة على بلاد الحجاز، فإن قضيتهما ستكسب بُعداً كبيراً في الأقاليم الإسلامية، فالناس تؤم الحرمين للعمرة والحج والزيارة، وبالتأكيد سينقلون أخبار المعارضين ومكانتهما، مما سيؤدي إلى تعاطف وتأييد وأنصار من تلك الأقاليم.
ولما خرج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة وقتل يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين بكربلاء كان لذلك وقع كبير على ابن الزبير، فالذي يخشاه ابن الزبير ـ وهو انفراد الأمويين به ـ قد حدث، ثم إن الرجل الذي كان يضفي مكانة ومنزلة على المعارضة قد قتل، ومع ذلك لم يحدث تحرك من الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين رضي الله عنه ، ولعل انفراده بالمعارضة ضد يزيد هي التي جعلت ابن خلدون يقول: ولم يبق في المخالفة لهذا العهد ـ الذي اتفق عليه الجمهور ـ إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف ، وقد أحس ابن الزبير بخطورة موقفه، ولكنه حاول أن يستفيد من دوافع الكره والمقت التي تعتلج في نفوس الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين .
1 ـ أول هجوم مباشر وصريح من ابن الزبير على يزيد:
عندما سمع ابن الزبير رضي الله عنهما مقتل الحسين رضي الله عنه قام خطيباً في مكة، وترحَّم على الحسين وذم قاتليه، وقال: أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقران الغناء، ولا البكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في طلب الصيد ـ يعرّض بيزيد ـ، فسوف يلقون غياً .
ونظراً للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير ، ولاحظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين رضي الله عنه، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد ويشتمه ، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوأى بني أمية ويطنب في ذلك .
2 ـ مساعي يزيد السلمية:
لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً من شأنه أن يعقّد النزاع مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله وماثره في الإسلام، ويحذره من الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: أذكرك الله في نفسك؛ فإنك ذو سن من قريش، وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق من اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى، ولا تبطل ما قدمت من حسن، وادخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرم الله، فأبى أن يبايع.
3 ـ غضب يزيد على ابن الزبير:
لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته، وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولاً ، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحاً تقياً ورعاً يجنح للسلم ويخشى من سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر على رأيه، وحتى يخفف يزيد من
صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة من فضة، وبرنس خز.
وفي رواية أخرى: أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة وقيد من ذهب، وجامعة من فضة .
وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: يا أبا بكر ! قد كان من أثرك في أمر الخليفة المظلوم ـ يعني عثمان بن عفان ـ ونصرتك إياه يوم الدار ما لا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان من إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنساً فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يخالف في ولاية ولا مال .
4 ـ ابن الزبير يفكر ويستشير في عرض يزيد:
استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، فقالت: يا بني ! عش كريماً ومت كريماً، ولا تمكن بني أمية من نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا .
وكان مروان بن الحكم قد بعث ابنه عبد العزيز، وقال له: قل لابن الزبير: إن أبي أرسلني عناية بأمرك وحفظاً لحرمتك، فابرر يمين أمير المؤمنين، فإنما يجعل عليك جامعة من فضة أو ذهب وتكسى عليه برنساً، فلا تبدو إلا أن يسمع صوتها، فكتب ابن الزبير إلى مروان يشكره ، وجاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع .
5 ـ تهديد الوفد لابن الزبير ورده عليهم:
بعدما أجاب ابن الزبير على الوفد بالمنع، قال لابن عضاة: إنما أنا بمنزلة حمامة من حمام مكة، أفكنت قاتلاً حماماً من حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة ؟! يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي، فأتاه بقوسه وأسهمه، فأخذ سهماً فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد، وقال: يا حمامة ! أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد ﷺ؟ وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟ والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا بن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعاً أو مكرهاً أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك، أو كما قال. فقال ابن الزبير: أو تحل حرم البيت، قال: إنما يحله من ألحد فيه . ثم قال ابن الزبير: إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال، وقد بايعتم، وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة ، وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد، وقال: لقد بلغني أنه يصبح سكران ويمسي كذلك، ثم قال: يا بن عضاة ! والله ما أصبحت أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينة من ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فالله يعلم إرادتي وكراهتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي، وأجاب الباقين بنحو جوابه . ثم قال ابن الزبير: اللهم إني عائذ ببيتك ، ولقب نفسه عائذ الله ، وكان يسمى العائذ .
رابعاً: الجهود الحربية ضد ابن الزبير:
1 ـ حملة عمرو بن الزبير:
رأى يزيد أنه لا بد من القيام بعمل عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقسم يزيد ووضع الأغلال في عنقه، ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنة ـ والمرجح سنة إحدى وستين ـ حج ابن الزبير معه، فلم يصلِّ بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته ، وهذا العمل من ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة الدولة، وعدم الاعتراف بها، وخصوصاً أن إقامة الحج تمثل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامة الجهاد في سبيل الله ، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة، وكان الحارث بن خالد المخزومي نائباً لعمرو بن سعيد على أهل مكة ، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمراً دون المسور بن مخرمة ، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات والجمع، ويحج بهم ،فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجه له جُنداً، فعين عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله، وقام بضرب كل من كان يتعاطف مع ابن الزبير، وكان ممن ضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهيل وغيرهم إلى مكة، فالتجؤوا إلى ابن الزبير ، وكان تعيين عمرو بن الزبير على قيادة الجيش المتجه لمحاربة ابن الزبير جاء بناءً على طلب من عمرو بن الزبير نفسه .
واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة، وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمئة من الجند ، فسار عمرو بن أنيس الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح ، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه (عبد الله) يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية، وحذَّره من القتال في البلد الحرام وكان عمرو بن الزبير يخرج من معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله. وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف، فأما أن تجعل في عنقي جامعة، ثم أقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيت أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي، فراجع صاحبك واكتب إليه، ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها.
وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكراً في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له: علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله، أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن أذاه في المدينة ، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل من ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا، قال له عبد الله بن الزبير: افعل به مثلما فعل بك، وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيب شديد من جراء ذلك ومات تحت الضرب .
لقد أثبت ابن الزبير رضي الله عنه أنه يملك ذكاء ودهاء بارزين، الأمر الذي مكّنه من تحويل القضية لصالحه، بعدما كانت في يد يزيد بن معاوية، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمَّت ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولا بد من مشاركة الناس، وكان يدعو إلى الشورى، ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يذكر، فخلال سنتين أو أكثر من معارضته ليزيد لم يحدث أي تغير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز، فضلاً عن غيره من الأقطار، ولكن ابن الزبير كان يهدف من التحرش بالأمويين إلى إيقاع يزيد في مأزق المواجهة، لقد ارتكب يزيد خطأً فادحاً عندما أقسم أن يأتيه ابن
الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل من صحابي جليل تجاوز الستين من عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية ؟!.
ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلت هذه الحادثة من ابن الزبير في نظر الكثير من المتمردين في موقفهم من ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته، والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير من التعاطف هو موقف أمير المدينة عمرو بن سعيد، فكان هذا الأمير ـ كما تذكر الروايات ـ شديداً على أهل المدينة معرضاً عن نصحهم متكبراً عليهم .
ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير، الذي تصفه الروايات أيضاً بأنه: عظيم الكبـر شديد العجب، ظلومـاً، قـد أساء السيرة وعسف الناس، وأخذ من عرفه بموالاة عبد الله والميل إليه، فضربهم بالسياط، ويقال: عمرو لا يكلَّم، ومن يكلمه يندم .
ومن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه: غزو مكة بجيش، فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية، ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقى المنبر في أول يوم من ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوَّذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم .
ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه وذكّروه بحرمة الكعبة وبحديث رسول الله ﷺ في بيان حرمتها، ولكنه رفض السماع لنصحهم ، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد من غزو البيت، وقال لـه: لا تغزو مكـة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبـر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال لـه عمرو: والله لنقاتلنّـه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني .
وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقباً مؤثراً حين أطلق على نفسه (العائذ بالله)، فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون، وكان لا بد من الدفاع عن مكة، في وجه جيش يريد استحلال حرمتها، وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفاً مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله ، وتدافع الناس نحو ابن الزبير من نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم ، وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز، الأمر الذي جعله يحقق نصراً ساحقاً وسهلاً على جيش عمرو بن الزبير .
2 ـ حملة الحصين بن نمير وحصار ابن الزبير وحريق الكعبة:
هلك مسلم بن عقبة النميري في طريقه لابن الزبير، وتولى القيادة من بعده الحصين بن نمير السكوني ووصل إلى مكة قبل انقضاء شهر محرم بأربع ليالٍ. وعسكر الحصين بن نمير بالحجون إلى بئر ميمون ، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة، والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة، وقام ابن الزبير يحث الناس على قتال جيش أهل الشام، وانضم المنهزمون من معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدم على ابن الزبير أيضاً نجدة بن عامر الحنفي في ناس من الخوارج، وذلك لمنع البيت من أهل الشام ، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثير من المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة، وتحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن مني ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخويه المنذر وأبي بكر ابني الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير .
وبعد ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة 64هـ قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس ، وجبل قعيقعان ، وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن نمير، ولم يبق مأمن لابن الزبير من أحجار المنجنيق سوى الحجر ، وحوصر ابن الزبير حصاراً شديداً، ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح ، وفي أثناء احتدام المعارك بين ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة، وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرم الله ورسوله ﷺ القتال فيه ، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول ، ولم يعلم أحد بموته نظراً لبعد المسافة بين مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الاخر سنة أربع وستين .
ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق، والدليل على ذلك ما أحدثه حريق الكعبة من ذهول وخوف من الله في كلا الطائفتين : جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير، فقد نادى رجل من أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة وقال: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده ، وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفاً من أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجداً ويقول: اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك .
وأهل الشام بالرغم من جهل بعضهم بابن الزبير ومكانته ، إلا أنه من المستحيل أن يجهل أحد منهم مكانة الكعبة وأهميتها، كيف وهم يتجهون إليها في صلاتهم عندما كانوا يحاصرون ابن الزبير، فمن المستحيل أن يعمد أحدهم إلى حرق الكعبة، أو كان ذلك يدور في تفكير الحصين بن نمير، وقد وردت تصريحات لبعض أقارب ابن الزبير وبعض السلف والعلماء المحققين بأنهم لم ينسبوا إلى أحد من الطائفتين قصد حريق الكعبة، فهذا هشام بن عروة يقول: .. فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار ، وقال ابن عبد البر: وفي هذا الحصار احترقت الكعبة ، وقال ابن حجر: ثم سارت الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فحاصروه بمكة وأحرقت الكعبة .
ولا شك أن أحداً من أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظِّمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين . وهكذا كانت أحد نتائج تلك الحرب التي دارت بين ابن الزبير والحصين بن نمير إحراق البيت الحرام .
ولما وصل الحصين خبر موت الخليفة بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، وكان يريد أن يجتمع به ويفاوضه في الخلافة، فالتقيا وتحادثا طويلاً واشتد بينهما الجدل، وكان فيما قال الحصين لابن الزبير وهو يدعوه للخلافة: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل هذه الحرة. فقال عبد الله: أنا أهدر تلك الدماء؟! أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة منكم، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر جهراً ويقول: لا والله لا أفعل. فقال له الحصين: قبح الله من يعدك بعد هذه داهياً قط أو أديباً، قد كنت أظن لك رأياً، ألا تراني أكلمك سراً وتكلمني جهراً، وأدعوك للخلافة وتدعوني للقتل والهلكة .
وبعد أن افترقا، أدرك عبد الله خطأه في موقفه مع الحصين عندما عرض عليه الخلافة ومرافقته إلى بلاد الشام، وأراد أن يصحح هذا الموقف، وكان الحصين يستعد للعودة بجنده إلى دمشق، فأرسل إليه يقول: أما أن أسير إلى الشام فلست فاعلاً، وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم، فرد الحصين بقوله: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس، فما أنا صانع؟!~. وذكر البلاذري: أن عبد الله بن الزبير طلب من الحصين مهلة لاستشارة أصحابه عندما عرض عليه الحصين الأمر، ولكن أصحابه رفضوا الخروج إلى الشام .
ويصعب على المرء أن ينفذ إلى أعماق ابن الزبير ويعرف ما كان يدور في خلده والأسباب التي دفعته لرفض عرض الحصين، ولكن هناك مؤشرات عديدة تؤخذ بعين الاعتبار من الواقع السياسي في بلاد الحجاز ؛ منها:
أ ـ لم تكن للحصين صفة رسمية عندما عرض الخلافة على ابن الزبير، ولم يكن يمثل الأمويين كلهم، رغم أنه قال: إن الجند الذين معه هم وجوه أهل الشام وفرسانهم. فكيف يثق ابن الزبير بقائد حملة كان يقاتله قبل أيام ويريد أن يفتك به ؟! وقد ظهرت المناقضة عند الحصين بقوله بعد ذلك: أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس .
ب ـ إن الذي عرض عليه الخلافة هو أحد قادة معركة الحرّة، وكان حول ابن الزبير عدد من أهل المدينة الذين هربوا من وحشية تلك المعركة، لذلك كان ابن الزبير يرد على الحصين بصوت جهوري، يسمعه من حوله من أنصاره ليدفع الشك عن نفوسهم، ويطمئنهم على موقفه من الحصين، فقال: إنه لا يرضى قتل عشرة من جيش الحصين بكل واحد من أهل المدينة .
جـ. عدم وجود أنصار ـ حتى الان ـ له في بلاد الشام يمكن أن يعتمد عليهم وينصرونه كما هو الحال في بلاد الحجاز، فأهل الشام كانوا يدينون بالولاء والمحبة والتقدير للأمويين.
د ـ عدم وجود جيش منظم حقيقي كالجيش الأموي عند ابن الزبير، وكل ما نستطيع أن نسمي المدافعين عن ابن الزبير وعن مكة، بأنهم من المقاتلين الذين يجتمعون وقت الشدة ويتفرقون عند زوالها، وهل هناك شدة أكبر من غزو الكعبة؟! وأعتقد لو كان لابن الزبير جيش منظم حقيقي ومدرب مسلح بحيث يستطيع هذا الجيش نصرة ابن الزبير لتوجه مع حصين بن نمير، ولتم له النجاح .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com