فتح الأندلس وجهود طارق بن زياد
الحلقة: 130
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2)
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
كان الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيريَّة (إسبانية والبرتغال) أمراً طبيعياً حسب الخطة التي اتبعها المسلمون أثناء فتوحاتهم، وهي تأمين حدودهم ونشر دعوتهم، وذلك بالمضي في جهادهم إلى ما وراء تلك الحدود، لنشر العقيدة الإسلامية التي تقتضي أن يستمر المدُّ الإسلامي ما دامت فيه القوة على الاستمرار، وبعد أن أرسى موسى بن نصير، ومن معه، كلمة الإسلام بجهودهم في المغرب الكبير، كانت الخطوة التالية الطبيعية هي فتح الأندلس.
وقد عمل موسى على إكمال جهود من سبقه من الجند الدعاة ـ قادة وجيشاً ـ في ترسيخ قدم الإسلام في الشمال الإفريقي، فقد عمل على تثبيت الإسلام في قلوب الناس، ونشط في تعليمهم وتربيتهم على مبادأى الدين الحنيف، واتت جهوده الدعوية ثمارها الزكية فقد أصبح البربر في تلك الديار من أخلص الناس للإسلام والدعوة إليه والجهاد في سبيل نشر تعاليمه، ولقد كانت أكثرية جيش طارق إلى الجزيرة الأيبيريَّة من المسلمين البربر، الذين تحمَّسوا لدعوة الإسلام، حباً لها وتضحية من أجلها، لا طمعاً في مغنم أو حرصاً على جاه، فهذا هو هدف جميع الفتوحات الإسلامية التي يكفي الاطِّلاع عليها ومعرفة طبيعتها لرفض الادعاءات وإسقاط المفتريات المزوّرة، التي تشير ـ تلميحاً أو تصريحاً ـ إلى اعتبار الغنائم سبب هذا الفتح، وهو أمر عارٍ من الحجج والبراهين والأدلة، وإنما هي أوهام لا تحمل أية رائحة من الطابع العلمي أو السند التاريخي .
1 ـ فـكـرة الفتـح:
يمكن القول بأن فكرة فتح الجزيرة الأيبيريَّة هي فكرة إسلامية تماماً؛ بل يُروى بأنها فكرة قديمة تمتد إلى أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان، فقد كان عقبة بن نافع الفهري يفكر في اجتياز المضيق إلى إسبانية لو استطاع، وسبق للمسلمين نشاط على شواطئ إسبانية الشرقية وبعض الجزر القريبة منها، وهي مَيورْقة ومَنورقة، واليابسة، ويذكر الذهبي أنه في سنة 89 هـ: جهز موسى بن نصير ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي مَيورْقة ومَنورقة، أما الاتصال بيُليان حاكم مدينة سبتة أو بغيره من الإسبان فإنها جاءت مواتية على ما يبدو وفي الوقت الذي كان موسى بن نصير يفكر في تنفيذ فكرة الفتح، ولكن كيف تم الاتصال بالجانب الإسباني (يُليْان وأنصار الملك المخلوع وغيرهم)؟
اختلفت الأقوال فيما إذا تم الأمر بالمراسلة أو باللقاء الشخصي وأين؟ إذا كان هذا الاتصال أصلاً قد تمّ وبهذا المستوى على كل حال؛ فإن اتصالات الجانب الإسباني بموسى ومساعداتهم ـ أثناء عمليات الفتح ـ ربما كانت عاملاً مساعداً سهَّل سير الفتح أو عجَّل به. لكن المبادأة ومردّ العمليات وإنجازها كانت من الجانب الإسلامي الذي اندفع مع الفتح بقوة فائقة معتمداً على الله في تحقيق ما يصبو إليه من هداية الناس.
وقد استشار موسى الوليد بن عبد الملك (86 ـ 96 هـ) قبل اتصالاته بيُليان، أو
اتصال هذا الأخير بموسى. وقد ترددت الخلافة ـ بادأى الأمر ـ بالقيام بمثل هذا العمل الكبير، خوفاً على المسلمين من المخاطرة في مفاوز أو إيقاعهم في مهالك، ولكن موسى أقنع الخليفة بالأمر، ثم تمّ الاتفاق على أن يَسبق الفتح اختبار المكان بالسرايا أو الحملات الاستطلاعية .
2 ـ الحملة الاستطلاعية، أو حملة طريف:
نفذ موسى أوامر الوليد بأن جهَّز حملة استطلاعية مؤلفة من خمسمئة جندي؛ منهم مئة فارس بقيادة طريف بن مالك الملقب بأبي زُرعة، وهو مسلم من البربر، وجاز هذا الجيش الزُّقاق ـ اسم يطلق أحياناً على المضيق ـ من سبتة بسفن يُليْان أو غيره، ونزل قرب أو في جزيرة بالوما في الجانب الإسباني، وعرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد: جزيرة طريف ، وكان إبحار هذه الحملة من سبتة في رمضان عام 91 هـ (تموز 710 م) وقد جال طريف في المدينة والنواحي المحيطة بها، واستطلع أخبار العدو في تلك الجهات ، وعادت حملة طريف بالأخبار المطمئنة والمشجعة على الاستمرار في عملية الفتح ، فقد درس أحوال المنطقة وتعرّف على مواقعها، وأرسل جماعات إلى عدة أماكن ـ منها جبل طارق ـ لهذا الغرض، فكانت هذه المعلومات عوناً في وضع خُطة الفتح ونزول طارق بجيشه على الجبل .
3 ـ العـبـور:
لما رأى موسى بن نصير ما حققته حملة طريف، وصحّ عنده ما نقل إليه من أحوال الأندلس، بعث طارق بن زياد في سبعة الاف من المسلمين أكثرهم من البربر والموالي، وأقلهم من العرب، ولما احتاج طارق إلى أعداد في فترة تالية أمدّه موسى بخمسة الاف، فتمّ جيش طارق من السفن لنقل الجنود إلى بر الأندلس، وقد حرص القائمون على الحملة لاستكمال عملية نزول الجند أن يُعموا أخبار الحملة على الناس، لذلك أحضر يوليان السفن إلى سبتة ليلاً وأخذت تنقل الجنود تباعـاً، ويبدو أن عملية إبحار الجند اقتضت أكثر من ليلة، فقيل: إن الجند الذين نزلوا بر الأندلس كانوا يكمنون في النهار حتى لا يشعر بهم أحد، وكانت السفن تختلف بين سبتة والأندلس وأهل الأندلس لا يظنون إلا أنها تختلف بمثل ما كانت السفن تختلف به من المنافع والمتاجر، ولما علم أهل الأندلس بالحملة كانت عملية الإبحار قد تمت بسلام في رجب من عام اثنين وتسعين للهجرة.
ونزل طارق بالجند عند جبل كالبي، وهو الجبل الذي أخذ اسم طارق وصار يعرف بجبل طارق، وقيل: لما ملك رئيس الموحدين عبد المؤمن الأندلس وعبر جبل طارق أمر ببناء مدينة على الجبل، وسماه جبل الفتح، ولكن الاسم لم يثبت له وظل اسم جبل طارق جارياً على الألسنة ، وسار طارق بالجيش نحو الجزيرة الخضراء ففتحها، وكان لذريق في شمال الأندلس مشغولاً في محاربة البشكنس، وقيل: في محاربة الفرنسيين، فأرسل خليفته تدمير يُعْلِمُه بالهجوم الإسلامي، فعاد لذريق مسرعاً لصده، وفي طريقه لقتال المسلمين عرّج على العاصمة طليطلة دون أن يدخلها، وصالح أسرة غطيشة ودعاهم والقوط المخالفين له إلى الانضمام إليه في حرب العدو المشترك فساروا معه، وقيل: إن لذريق عهد بقيادة ميمنة جيشه وميسرته إلى ابني غطيشة .
وعلم طارق بالحشود التي حشدها لذريق لمجابهته فكتب إلى موسى ينبئه بضخامتها، ويطلب منه مدداً، فأمدّه موسى بخمسة الاف مقاتل ، ويصف المقري نقلاً عن بعض المؤرخين جند طارق: لقد أقبلوا وعليهم (الزرد)، وفوق رؤوسهم (العمائم البيض)، وبأيديهم (القسي العربية)، وقد تقلدوا السيوف وحملوا الرماح، فلما راهم لذريق دخله منهم الرعب .
وذكر ابن الأثير: أن طارقاً لما ركب البحر غلبته عينه فرأى النبي ﷺ ـ في نومه ـ ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسّي، فقال له النبي ﷺ: يا طارق تقدم لشأنك، وأمره بالرفق بالمسلمين، والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي ﷺ.
وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر.
4 ـ معركة وادي لكّـة أو العبـور إلى الأندلس:
لم يعد بين طارق وخصمه لذريق سوى عاملي الزمن والأرض، وأصبح من الواضح أن طارقاً أكثر حرية من خصمه بعد سقوط ولاية (الجزيرة الخضراء) بيده وهزيمة قائد القوط (بنج) وهلاك فرقته بكاملها على يـد جيش طارق، وأصبح قادراً على اختيار المكان المناسب للقتال، فقد كان اختيار ميدان القتال من قبله من أهم عناصر نجاحه في هذه المعركة ، إذ كان قد أسند ميمنة جيشه إلى بحيرة خاندا شرقاً، الممتدة عدة كيلومترات، والتي يصب فيها نهر البرباط الذي يمر بوادي البرباط، وأسند ميسرته إلى الوادي المذكور غرباً، كما أسند مؤخرة هذا الجيش إلى جبال (رتينا) العالية جنوباً، منتظراً أن يأتيه العدو من الشمال بعد أن وضعه في موضع الاضطرار لا الاختيار، وما أن استكمل لذريق عدة الجيش وعديده حتى تحرك جنوباً لمواجهة طارق وجيشه في المكان الذي اختاره هذا الأخير، فوصله في الأيام الأخيرة من شهر رمضان عام 92 هـ وعسكر بجيشه على الجهة الشمالية للوادي.
والتقى الجيشان على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة 92 هـ، واتصلت الحرب بين الجانبين ثمانية أيام استشهد فيها ثلاثة الاف من المسلمين، ولكن الهزيمة دارت على لذريق وجيشه، وقيل: إن لذريق غرق وقتل كثير من جيشه، ومما يروى عن أبناء غطيشة أنهم خذلوا لذريق وجيشه وتركوهم وأنصارهم أمام المسلمين، ظناً منهم أن المسلمين، إذا امتلأت أيديهم، من الغنائم عادوا إلى بلادهم، فبقي الملك لهم ، ولعل خذلان آل غطيشة وأنصارهم لذريق كان بدافع الانتقام منه ، ولا شك أن هذا الفتح مثل غيره يعود إلى قوة المسلمين
بتمكن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم وحرصهم على الشهادة في سبيلها .
وبعد هذا النصر العظيم تعقب طارق فلول الجيش القوطي التي لاذت بالفرار. وسار الجيش الإسلامي فاتحاً لبقية مناطق الجزيرة الأيبيريّة .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com