من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2)
الخطبة المنسوبة إلى طارق بن زياد وحرق السفن
الحلقة: 132
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
يعتقد كثير من المؤرخين أن طارقاً أحرق سفنه، بعد أن أنزل جيشه على الساحل الأندلسي، ثم خطب بجنده الخطبة الشهيرة: أيها الناس، أين المفر؟! البحر من ورائكم، والعدو من أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر...، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوِّكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رُعْبها... وجاء في الخطبة: وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات بالدّر والمرجان، والحُلل المنسوجة بالعقبان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمُجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله إلى إعلاء كلمته .. إلى اخر الخطبة .
وبالإمكان إيراد الملاحظات التالية حول الخطبة:
أ ـ لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر (القرن الأول الهجري)، وغير متوقع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
ب ـ إن المعاني التي تناولتها الخطبة لا تتلاءم وروح الإسلام العالية، التي توفرت لدى الفاتحين، ومقدار حبهم للإسلام وإعلاء كلمته، ورغبتهم في الاستشهاد من أجل ذلك، فهي لا تشيد بدوافع الفتح وأهدافه ـ وهي معروفة مألوفة ـ التي أنبتتها ورعتها العقيدة الإسلامية، عاملة على ابتغاء مرضات الله تعالى وحده، لتعلو راية الإسلام وتسود شريعته ويكون الدين كله لله: {وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ٣٩} [سورة الأنفال:39]
جـ يلاحظ في الخطبة عديد من الأخطاء، ويلاحظ فيها التناقض في المعاني، وبعض ما فيها مخالف لحقائق تاريخية، كاستعمال (اليونان) التي ربما جاء ذكرها للسجع، فالمؤرخون الأندلسيون اعتادوا أن يستعملوا في هذه المناسبة القوط أو الروم ، وكذلك العلوج والعجم أو المشركين والكفار، وليس لدينا نص يحتوي مثل هذا الاستعمال، غير أن ابن خلكان ـ وهو مشرقي ـ أورد هذا الاستعمال في غير
الخطبة . وجاء في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين..» فالذي انتخبهم موسى بن نصير وليس الوليد .
د ـ كان المتوقع أن تحتوي الخطبة على ايات من القران الكريم وأحاديث الرسول الأمين ﷺ، أو وصايا وأحداث ومعانٍ إسلامية أخرى تناسب المقام كالمعهود . وغير ذلك من الملاحظات.
وكل ما تقدم لا يمنع أن يكون طارق جيد الكلام، وأنه خطب جنده يحثُّهم على الجهاد ، ويروي المقري أبياتاً قالها طارق بهذه المناسبة:
ركبْنَـا سَفيناً بالمجـازِ مُقَيَّـرا
نفوساً وأمـوالاً وأهـلاً بجنَّـة
ولسنا نُبالي كيفَ سالتْ نفوسُنا
عسى أنْ يكونَ اللهُ منَّا قدِ اشترى
إذا ما اشتهينا الشيءَ منها تيسَّرا
إذا نحنُ أدْرَكْنا الذي كان أجْدَرَا
وقال ابن بشكوال: إن طارقاً كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه . ووجهة هذه الأبيات تغاير وجهة الخطبة، فهي منسجمة والمعاني الإسلامية، ومستمدة من قوله تعالى: {۞إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ١١١} [سورة التوبة:111]
وأما موضوع حرق طارق للسفن التي عبر بها المضيق، كي يقطع على الجيش الإسلامي كل أمل في العودة، فيستميت في الدفاع .. ذكر بعض المؤرخين ذلك !
لكن لماذا يحرق طارق السفن، سواء امتلكها المسلمون أم يُلْيان؟ وكان طارق وجيشه يقاتلون من أجل عقيدة، وإنهم في ساعة عبورهم جاؤوا مجاهدين مستعدين للشهادة، وطارق متأكد من هذه المعاني، فإذا كانت السفن ليُليان فليس من حق طارق التصرف بها، وإن كانت للمسلمين فليس حرقها عملاً عسكرياً سليماً أو مناسباً، ما دام يحتاج إليها وإلى النجدة والاتصال الدائم بالمغرب لأي غرض، وقد رأينا كيف احتاج إلى النجدة قبل خوض هذه المعركة واحتاجها فيما بعد ، كما أن طارقاً كان قادراً على إعادتها إلى الساحل الإفريقي.
إن الدوافع الإسلامية والهدف الذي جاء الجيش من أجله أقوى في الاندفاع من أي سبب اخر، وما كان المسلمون يتخلفون عن خوض معركة أو تقديم أنفسهم لإعلاء كلمة الله، بل لذلك أتوا، والمصادر الأندلسية ـ لاسيما الأولى ـ لا تشير إلى قصة حرق السفن التي لا تخلو من علاقة وارتباط بقصة الخطبة .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com