عبور موسى بن نصير إلى الأندلس
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 133
بقلم: علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021
كان موسى بن نصير من التابعين ـ رحمهم الله تعالى ـ وقد روى عن تميم الداري رضي الله عنه، وكان عالماً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى ، وكان من رجال العلم حزماً ورأياً وهمّة ونبلاً وشجاعة وإقداماً ، وكان حين وجّه طارقاً لفتح الأندلس كان يتلقى الأخبار ويراقب الأحداث، منذ بدايتها، ويُهيِّأى المتطلبات لإنجاز هذا الفتح الكبير، بهمة المؤمن وإخلاص التقي، ويدعو الله أن ينزل نصره على المسلمين .
وكان موسى بن نصير يعتقد اعتقاداً كبيراً في أهمية الدعاء والتضرع لتحقيق النصر على الأعداء، ويعتبر الدعاء من أسباب النصر التي أرشد إليها القران الكريم ومارسها رسول الله ﷺ. يقول ابن الكردبوس: وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقاً مُكبَّاً على الدعاء والبكاء والتضرع لله تعالى، والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين، وما عُلم أنه هزم له جيش قط .
وكان طارق بن زياد على صلة بقائده موسى بن نصير، يفتح الفتوحات باسمه وبتعليماته، ويخبره عن كل شيء أولاً بأول منذ بداية الفتح، ويستشيره فيما يحتاج إليه، وقد رأينا كيف طلب المدد قبل معركة وادي لكّة، وكان موسى على علم تام بأحوال الفتوح.
وبعد سنة تقريباً من عبور طارق، وتفرق جيشه وتوزيعه على المناطق والمدن التي فتحت ـ خاف طارق أن يُغلب، وأن يستغل القوط قلة جيشه، فأرسل إلى موسى يستنجده، واستخلف موسى على القيروان ولده عبد الله.. ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم ، وتحرك موسى بجيشه نحو شذونة؛ فكانت أول فتوحاته، ثم توجه إلى مدينة قرمونة وليس بالأندلس أحصن منها، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال، فدخلها بحيلة توجهت بأصحاب يُلْيان، دخلوا إليهم كأنهم فُلال، وطرقهم موسى بخيله ليلاً ففتحوا لهم الباب، وأوقعوا بالأحراس، فملكت المدينةفافتتحها.
وتوجه بعد ذلك: إلى إشبيلية جارتها، فحاصرها وهي أعظم مدائن الأندلس... فامتنعت شهراً على موسى ثم فتحها الله عليه، .. ثم سار إلى مدينة ماردة وفتح في طريقه إليها لَبْلَة وباجة، ثم فتح ماردة صلحاً بعد قتال وجهاد عظيم ، وأقام موسى في ماردة زيادة على شهر يرتب أحوالها وينظم أمورها ويريح الجند من العناء ويستعد لاستئناف السير ، ووجه موسى ابنه عبد العزيز من ماردة إلى إشبيلية، وكانت فلول القوط من لبلة وباجة قد اجتمعت فيها وقتلوا العديد من المسلمين، منتهزين فرصة انشغال موسى بحصار ماردة، وبلغه الخبر خلال الحصار، فأعاد عبد العزيز فتح إشبيلية ثم فتح لبلة وباجة، وأصبحت المدن والقرى تتساقط أمام جيوش الفاتحين كتساقط الأوراق من على الأشجار في فصل الخريف.
لقاء موسى وطارق:
في بداية ذي القعدة سنة 94 هـ ابتدأ موسى بالسير صوب طليطلة، وكتب إلى طارق بالتوجه إليه في مجموعة من جيشه، ثم جاءه طارق. ذكر البعض أن لقاءهما كان عند طليطلة أو قرطبة، ورجح الدكتور الحجي العالم البارز في تاريخ الأندلس: بأن اللقاء كان خارج مدينة طلبيرة التي تبعد 150 كم غرب طليطلة .
ووصل موسى وطارق إلى طليطلة في ذي القعدة أو ذي الحجة أو اخر سنة 94 هـ، وأقاما بالجيش الإسلامي فصل الشتاء أو جله في طليطلة يرتبون أحوالها وينظمون شؤونها، ويستريحون ويتهيؤون ويخططون لفتح شمال شبه الجزيرة الأيبيريَّة، وكتب موسى والقادة الاخرون إلى الخليفة الوليد ـ وربما ليس لأول مرة ـ أخبار الفتح، وضربت العملة الإسلامية لأول مرة في الأندلس، وقام بالدعوة إلى الله وتعليم الناس حقائق الإسلام وشرحه لهم ودعوتهم إليه بعد أن راه أهل البلاد عملياً في خلق الفاتحين. ولعلهم أرسلوا فرقاً إلى بعض المناطق، فقد كان طارق خبر أحوال طليطلة لاسيما شمالها، إذ كان قد وصل إلى مدينة المائدة (في منطقة وادي الحجارة).
وأما ما تحدثت عنه المصادر عن قصة الخلاف الذي قيل: إنه حدث بين القائدين الكبيرين موسى وطارق، وتبالغ هذه المصادر فترجع أمر هذا الخلاف إلى حسد دبَّ في نفس موسى على مولاه طارق، وعلى ما حققه من نجاح، وتنسب إلى موسى أنه أهان طارقاً بأن وضع السوط على رأسه ، فهذه روايات ناقشها عدد من الباحثين وأبانوا ضعفها وسقوطها وتفاهتها، كمحمود شيت خطاب ، وعبد الله عنان، ود. عبد الرحمن الحجي، ود. محمد بطاينة ، ود. عبد الشافي محمد عبد اللطيف ، وغيرهم، وإن كان حدث شيء فلا يعدو أن يكون مناقشة القضايا أو استفهامه من طارق خطته وإبداء الملاحظات عليها، تخوفاً من الأذى، وعندما استفسر موسى من طارق عن سبب الإيغال والتقحم في بلاد العدو، اعتذر إليه طارق بخطته العسكرية أمام الظروف المحيطة والضرورة الداعية لأسلوبه، وقبل موسى عذره. وسارا بعده سوية إخوة مجاهدين، ينشرون دين الله ويُعلون كلمته ويبلغون للناس شريعته ، كما لا ننسى أن طارقاً جندي من جنود موسى، والانتصارات التي حققها طارق إنجازات تكتب في صفحة موسى القيادية .
وعند انتهاء الشتاء وحلول الربيع سنة 95 هـ تهيأ الجيش الإسلامي لترك طليطلة، ثم أوغل شمالاً ففتح مدن لاردة ووشقة وطركونة وبرشلونة، كما فتح بلنسية وطرطوشة على الساحل الشرقي للأندلس، وفي هذا الوقت وصل مغيث الرومي مبعُوثاً من جانب الخليفة الوليد بن عبد الملك يحمل إلى موسى بن نصير أمر الخليفة بالقدوم إلى دمشق، ولكن فتح الأندلس لم يكن قد اكتمل بعد، لذلك لاطف موسى مغيثاً وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في دخول بلاد جليقية وأشتوريس، ويكمل فتح الأندلس ويكون مغيث شريكه في الأجر والغنيمة ـ أي يصبح له سهماً في القيمة ـ ففعل مغيث ومشى في ركاب موسى إلى جليقية والأشتوريس ففتحها، وتعقب موسى وطارق فلولَ القوط حتى اضطرّ هؤلاء إلى الفرار إلى جبال كنتبرية في أقصى الشمال الغربي من الأندلس .
ولما تأخرت أخبار موسى قلق الخليفة الوليد على مصير الجيش الذي مضى على وجوده في البعوث ما يقارب أربع سنين، لذلك أرسل الوليد رسولاً ثانياً، فوصل الرسول الأندلس وموسى في مدينة لَكْ بحُليقية يُوجِّهُ السرايا والبعوث التي بلغت صخرة بلاك التي تقع في الشمال الغربي على البحر الأخضر ـ خليج بسكاي ـ من المحيط الأطلسي، فاستجاب موسى إلى الرسول وعاد إلى طليطلة، ثم غادرها إلى قرطبة، ومنها إلى إشبيلية حيث استخلف فيها ولده عبد العزيز والياً، واتخذ منها عاصمة للبلاد، ولكن إشبيلية لم تمكث طويلاً عاصمة للبلاد وإنما استعيض عنها بقرطبة منذ عام 97 هـ، وظلت قرطبة مركز الديار الأندلسية حتى نهاية عهد الخلافة في الأندلس، ويبدو أن موسى اختار إشبيلية عاصمة في هذه المرحلة من تاريخ الأندلس لوقوع إشبيلية في منطقة تتساوى عندها احتمالات الخطر والسلامة، وواجبات الحفاظ على البلاد وحمايتها، فهي لم تخرج إلى الأطراف بعيداً عن الوسط، ولم تقترب من خطوط المواجهة مع الأعداء بعيداً عن بلاد المغرب وإمداداتها .
رجوع موسى إلى عاصمة الخلافة دمشق:
غادر ركب موسى وطارق بن زياد الأندلس في ذي الحجة عام 95 هـ يحمل معه الأسرى والغنائم الوفيرة والهدايا الثمينة وغيرها من الكنوز، فلما بلغ طنجة ترك ابنه عبد الملك فيها حاكماً، ثم انصرف منها إلى القيروان، فأقرّ ابنه عبد الله الذي كان قد استخلفه في أثناء غيابه في الأندلس ، ثم سار من هناك يريد دمشق، فوصلها في عام 96 هـ قبل وفاة الوليد. وقيل: إن سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى بن نصير أن لا يدخل دمشق؛ يريد أن ينتظر وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك، ثم يدخلها، فتكون علامات الفتح ودلائل النصر من الأسرى والغنائم والهدايا فاتحة عهده، فيعظم مقامه عند الناس، ولكن موسى خالف سليمان ودخل، فلما ولي سليمان الخلافة
حقد على موسى وعزله وحبسه وأغرمه أموالاً كثيرة .
ويبدو أن تدخل يزيد بن المهلب وعمر بن عبد العزيز لصالح موسى، لدى سليمان بن عبد الملك أثمر عن رضا سليمان عن موسى، وأصبح فيما بعد عظيم المنزلة، وكان سليمان يستشيره في بعض الأمور العسكرية، كما هو الحال في الخطة العسكرية الواجب اتباعها في سير الحملة المتجهة إلى القسطنطينية، كما أن سليمان كان يخرج إلى بعض أمواله متنزهاً وبرفقته موسى بن نصير .
ويبدو أن سعة البلاد التي صارت إلى نظر موسى وتحت سلطانه وكانت تمتد من غرب مصر إلى جنوب فرنسا، وقيام موسى بتوزيع الحكم فيها على أبنائه، كان مما يثير الشكوك في نفوس أولي الأمر، لذلك بادر سليمان حرصاً على وحدة الدولة وسلامتها من الانقسام إلى عزل موسى بن نصير عما كان تحت يده من الأعمال .
ومن الأسباب التي ذكرت في سبب استدعاء موسى إلى دمشق تخوُّف الوليد على المسلمين أن يكونوا في أرض منقطعة، ومحاطة بمناطق غير إسلامية وعلى اتصال بها، هي أقرب إليها من العالم الإسلامي أو مراكز ارتباطه واستمداده، وهو الذي رأيناه عارض فتح الأندلس خوفاً على المسلمين أن يخوضوا المخاطر ويركبوا المهالك؛ حتى بيَّن له موسى ألاَّ داعي للخوف
ويرى الكثير من المؤرخين أن موسى بن نصير لم يكن يعتزم التوقف في فتوحاته عند هذا الحد، وإنما كان يخطط لعبور جبال البرانس واجتياح أوروبة كلها والوصول إلى القسطنطينية وفتحها من جهة الغرب، لولا أن استدعاه الخليفة الوليد إلى دمشق وأمره بالتوقف بالفتح عند هذا الحد.
ويؤكد المؤرخون أنه لو قد قدر لموسى بن نصير أن يمضي قدماً في مشروعه هذا لتغير شكل النظام الدولي تماماً، ولقضى على القوى غير الإسلامية، ذلك أنهم باستقرائهم النظام الدولي وقتئذ؛ فإنهم يؤكدون أن احتمالات نجاح مشروعه هذا كانت عالية جداً، إذ لم تكن الظروف مواتية لنجاحه مثلما كانت مواتية وقتها، فمملكة الفرنجة كانت مشغولة وقتها بصراعاتها مع الممالك الأخرى، ولم يكن هناك كيان سياسي واحد في أوروبة كلها يعادل قوة الدولة الإسلامية أو حتى بدايته ويشير هؤلاء المؤرخون إلى أنه لما قدر للمسلمين في هذه المنطقة قائد كفء بعد عشرين عاماً من ضياع هذه الفرصة كانت الظروف الدولية قد تغيرت لغير صالح المسلمين، فلما حاول هذا القائد إحياء مشروع موسى بن نصير هزم هزيمة ضخمة تدخل في تاريخ العلاقات الدولية بوصفها نقطة تحول؛ وهي معركة بلاط الشهداء .
وقد تكرست الاثار السلبية لعدم استكمال موسى بن نصير لمشروعه بفشل حصار المسلمين للقسطنطينية بعد ذلك بسنوات قليلة، وهو ما أغلق أوروبة أمام المسلمين من الشرق بعد أن كانت قد أُغلقت أمامهم من الغرب، ولقد فشل المحللون في تفسير سبب استدعاء الخليفة الوليد لموسى بن نصير، فبعضهم قائل: إنه أشفق على المسلمين من مخاطر هذا المشروع البحري، وبعضهم الاخر يؤكد أن الخليفة إنما خاف على سلطانه من تصاعد نفوذ وقوة موسى بن نصير، وسواء صحت هذه التفسيرات أو أخطأت، فإن ما حدث بالفعل بعد استدعاء موسى بن نصير إلى دمشق، هو تقويض هدف مصيري للأمة أضاعت فيه فرصة ثمينة في فتح أوروبة وجعلها تحت نفوذ الدولة الإسلامية .