الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

خاتمة موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله تعالى:

الحلقة: 134

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021

تخبطت الروايات في الحديث عن نهاية موسى وما لقيه من الخليفة سليمان من الأذى والغمط والنكران، وفي هذه الروايات غموض وتشويش وتناقض ومبالغات كبيرة ، والصحيح أن سليمان كان عاتباً على موسى، لأمر لا نستطيع تحديده على وجه الدقة، ثم رضي عنه سليمان وقرّبه منه وأصبح من خاصته ، وكانت بينه وبين سليمان محاورات وتساؤلات؛ فقد قال له سليمان يوماً: ما كنت تفزع إليه عند الحرب؟ قال: الدعاء والصَّبْر، قال: فأي الخيل رأيت أصبر؟ قال: الشقر، قال: فأي الأمم أشدُّ قتالاً؟ قال: هم أكثر من أن أصف؟ قال: فأخبرني عن الرُّوم، قال: أُسْدٌ في حصونهم، عِقبان على خيولهم، نساء في مَراكبهم، إن رأَوا فرصة انتهزوها، وإن رأَوْا غلبة، فأوعال تذهب في الجبال، لا يرون الهزيمة عاراً. قال: فالبربر؟ قال: هم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبراً وفروسية، غير أنهم أغدر الناس، قال: فأهل الأندلس؟ قال: ملوك مترفون وفرسان لا يجبنون، قال: فالفرنج؟ قال: هناك العدد والجلد والشدة والبأس، قال: فكيف كانت الحرب بينكم وبينهم؟ قال: أمَّا هذا فوالله ما هُزمت لي راية قط ولا بُدِّد لي جمع، ولا نُكب المسلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين، ولقد بعثت إلى الوليد بتور زبرجد كان يجعل فيه اللبن حتى ترى فيه الشعرة البيضاء، ثم أخذ يُعدِّد ما أصاب من الجوهر والزبرجد حتى تحيَّر سليمان .
وقد وصف الذهبي موسى بن نصير بقوله: الأمير الكبير، أبو عبد الرحمن اللخمي، متولي إقليم المغرب، وفاتح الأندلس، قيل: كان مولى امرأة من لخم، وقيل: ولاؤه لبني أمية. وكان أعرج مهيباً ذا رأي وحزم، وكان من أصحاب الهمم الكبيرة؛ فقد قال مرّة: والله لو انقاد الناس لي، لقدتهم حتى أُوقعهم على رُومية ثم ليفتحنها الله على يدي.
وكان موسى بن نصير بوسعه أن يستقل عن الخلافة ويقيم ملكاً له ولأولاده في المغربوالأندلس، ولكن إيمانه العميق بتعاليم الإسلام وتمسكه والتزامه بها جعله لا يفكر بذلك، حتى إن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة سأله عن ذلك، فقال موسى: والله لو أردت ذلك ما نالوا من أطرافي طرفاً، ولكني اثرت الله ورسوله، ولم نر الخروج عن الطاعة والجماعة .
وقد توفي موسى بن نصير رحمه الله تعالى وهو متجه للحج برفقة الخليفة سليمان بن عبد الملك في المدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ، أو في وادي القرى (العُلا حالياً) أواخر سنة 97 هـ ، وعمره ثمانٍ وسبعون سنة أو يزيد (في سنة 97 ه) ـ ، وقال صاحب معالم الإيمان: توفي بالمدينة متوجهاً إلى الحج، وكان قد سأل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة أو يموت بالمدينة، فأجاب الله دعاءه ، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك .
لقد كانت الدنيا وما فيها صغيرة ولا قيمة لها عند موسى بن نصير، ويرجع الفضل في ذلك إلى الله ثم نصيحة العالم الجليل أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي لموسى بن نصير، فقد أورد صاحب كتاب رياض النفوس: أن موسى بن نصير لما وصل من الأندلس إلى القيروان قعد يوماً في مجلسه، فجاءه العرب يسلمون عليه، فلما احتفل المجلس قال: إنه قد صحبتني ثلاث نعم: أما واحدة فإن أمير المؤمنين كتب إليَّ يهنئني في كتابه، وأمر بقراءة الكتاب، فهُنِّئ بذلك، وأما الثانية فإن كتاب ابني قدم علي بأنه فتح له بالأندلس فتح عظيم، وأمر بالكتاب فقرئ فهُنِّئ بذلك، وكان علي بن رباح ساكت، فقال له موسى: مالك يا علي لا تتكلم؟ فقال: أصلح الله الأمير، قد قال القوم، فقال: وقل أنت أيضاً. فقال: أنا أقول ـ وأنا أنصح القائلين لك ـ: إنه ما من دار امتلأت حبرة إلا امتلأت عبرة، وما انتهى شيء إلا رجع، فارجع قبل أن يرجع بك، فانكسر موسى بن نصير وخشع وفرق جواري عدة.. وقال صاحب الرياض: ونفعه الله عز وجل بموعظة أبي عبد الله بن رباح، فصغرت عنده الدنيا وما فيها، ونبذها وانخلع مما كان فيه من الإمارة .
فرضي الله عن التابعي الجليل، والإداري الحازم، والبطل المغوار، والقوي الأمين، القائد الفاتح موسى بن نصير اللخمي الذي فتح المغرب الأقصى، واستعاد فتح المغرب الأوسط، وقد دعم الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي، وفتح الأندلس وقسماً من جنوب فرنسة، وكان من أعظم قادة الفتح الإسلامي، لقد مات موسى بن نصير بعد أن ملأ جهاده ـ بقيادة المد الإسلامي المبارك ـ وديان المغرب الإسلامي (الشمال الإفريقي والأندلسي) وجباله وسهوله وهضابه، ووجه دعاة الحق لإسماع ساكنيه دعوة الإسلام الخالدة، فكانت سبباً في إخراجهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، أما ترى معي موسى وهو يجوب الصحارى والوديان والسهول والجبال وقد سلخ من سني عمره خمساً وسبعين سنة، ممتطياً جواده، يتحرك في أعماقه إيمان بالله العلي القدير قد دفعه للجهاد والدعوة والعلم والتربية وإحكام أمور الدولة رغم ما علا رأسه من الشيب الوقور، منقاداً لإصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان الفتي ، التي كانت سبباً في كل خير أصاب المسلمين.
أما عن البطل الكبير طارق بن زياد، فلا نكاد نعرف شيئاً مما حدث له بعد وصوله دمشق، غير أن رواية تذكر رغبة سليمان في تولية طارق الأندلس، وبعد ذلك قضى اخر أيامه مغموراً ؛ فهل عاد إلى المغرب والأندلس أم بقي في دمشق؟ ولا يستبعد أن يكون عاد إلى الأندلس أو المغرب .
كان طارق من البربر وعامّة جنوده كذلك، فيهم شجاعة وإقدام، فقد تربوا في أحضان الإسلام وعلى تعاليم القران الكريم، وأصبحوا أصحاب رسالة خالدة صنعت منهم الأبطال، وقدموا في سبيل دينهم وعقيدتهم الغالي والنفيس، بل نجزم بأن الجيوش الإسلامية الضاربة التي اصطدمت بالإسبان اعتمدت بعد الله على إخواننا من البربر الذين اندفعوا خلف طارق في سبيل هذا الدين ونشره، إن العقيدة الإسلامية صهرت المنتسبين إليها عرباً وعجماً في رحاب الإسلام العظيم .

الأندلس بعد موسى بن نصير:

تولى الأندلس منذ عودة موسى بن نصير إلى دمشق وحتى قيام الإمارة الأموية سنة 138 هـ حوالي عشرين أميراً، كان أولهم عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي ألقى أبوه بزمام الأندلس بين يديه، وكان خير خلف لخير سلف، فقد ضبط الأمور وسد الثغور وافتتح مدائن كثيرة وكان من خيرة الولاة، ولكن لم تطل مدة عبد العزيز في حكم الأندلس، فقد قتله بعض جنده غيلة لأشياء نقموها عليه، وكان ذلك في مستهل رجب سنة 97 هـ .
وأعقب مقتل عبد العزيز بن موسى فترة من الاضطراب، ومكث أهل الأندلس شهوراً لا يجمعهم وال؛ حتى اجتمعوا على أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير ، وكان أيوب رجلاً صالحاً فاضلاً، ولكن مدة ولايته لم تطل، ويبدو أن الناس هناك هم الذين نصبوه ليدبر الأمور حتى تعين الخلافة والياً من قبلها.
وقد عينت الحر بن عبد الرحمن الثقفي الذي كان أهم أعماله نقل مقر إمارة الأندلس من إشبيلية ـ حيث كان يحكم عبد العزيز بن موسى ـ إلى قرطبة . كما كانت له غزوات تجاوز بها حدود بلاد الأندلس إلى بلاد الفرنجة ونواحي أربونة، فسبى وغنم وقفل بالأسارى والغنائم، وقد أدى انشغال الحر الثقفي بالغزو في الشمال الشرقي إلى انتعاش حركة المقاومة المسيحية في المنطقة التي لم يتمكن المسلمون من فتحها، وهي المنطقة الشمالية الغربية بزعامة بلاي، مما اضطره إلى العودة للقضاء على تلك المقاومة، وبينما هو مشغول بذلك عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 ـ 101هـ) وعين مكانه السمح بن مالك الخولاني (100 ـ 102 هـ) .
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022