الأحد

1446-10-29

|

2025-4-27

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(خلافة عمر بن عبد العزيز)

الحلقة: 154

د. علي محمد الصلابي

رجب 1442 ه/ فبراير 2021

من حسنات سليمان عبد الملك قبوله لنصيحة الفقيه العالم رجاء بن حيوة الكندي الذي اقترح على سليمان في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، وكانت وصية لم يكن للشيطان فيها نصيب، قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان ! افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز.وكانت سنة وفاته سنة 99 هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: (أؤمن بالله مخلصاً) .
وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر، وقد ذكرت بعضها في حديثي عن عهد سليمان، ومن الروايات أيضاً ما ذكره ابن سعد في طبقاته، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً خضراً من خز، ونظر في المراة فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ، فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال سليمان: كتاب أستخير الله فيه، وأنظر، ولم أعزم عليه، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت. قال: يا رجاء فمن ترى ؟ قال: فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين ! وأنـا أريد أن أنظر من يذكـر. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلمـاً. فقال: هو على ذلك، والله لئن وليتـه ولم أولِّ أحداً من ولـد عبد الملك لتكونن فتنـة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعـده ـ ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم ـ قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به، قلت: رأيك، قال: فكتب بيده: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب.
فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مرْ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب، فجمعهم، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم، فأخبرهم أنه كتابي، ومرهم فليبايعوا من وليت. قال: ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه، وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين، قال: نعم. فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب ـ وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة ـ هذا عهدي، فاسمعوا، وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. قال: فبايعوا رجلاً رجلاً. قال: ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء.
قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حرمة ومودة، وكان بي براً ملطفاً، فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئاً، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي، إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الان قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعة. فقال رجاء: لا والله ما أنا بمخبرك حرفاً واحداً. قال: فذهب عمر غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، ولا نُحِّيَ عنه هذا الأمر، فأعلمني فلك الله لا أذكر اسمك أبداً. قال رجاء: فأبيت وقلت لا والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسر إلي، فانصرف هشام..، وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى، وهو يقول: فإلى من إذا نُحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فوالله إني لعين بني عبد الملك.
قال رجاء: ودخلت على سليمان بن عبد الملك، فإذا هو يموت. قال: فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت، حرفته إلى القبلة، فجعل يقول وهو يفأق: لم يأنِ ذلك بعد يا رجاء. حتى فعلت ذلك مرتين. فلما كانت الثالثة قال: من الان يا رجاء، إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فحرفته، ومات، فلما أغمضته سجيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب، وأرسلت إليَّ زوجته تنظر إليه، كيف أصبح ؟ فقلت: نام وقد تغطى، فنظر الرسول إليه، مغطى بالقطيفة فرجع، فأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم.
قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، وأوصيته أن لا يريم حتى اتيه، ولا يدخل على الخليفة أحداً. قال: فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، قالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى ؟! قلت: هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً.
قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان، رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبداً. قال: قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع. فقام يجر رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع، لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه ! فلما انتهى هشام إلى عمر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ـ أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك ـ قال: فقال عمر: نعم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حين صار إلي ـ لكراهتي له .
وقال أبو الحسن الندوي على موقف رجاء بن حيوة: وكان لرجاء مأثرة لا ينساها الإسلام، ولا أعرف رجلاً من ندماء الملوك ورجالهم انتفع بقربه ومنزلته عند الملوك مثل انتفاعه، وانتهز الفرصة مثل انتهازه، وأسدى للإسلام خدمة مثله، فرحم الله رجاء بن حيوة فقد رسم منهجاً لمن يجلس مع الملوك من العلماء كيف يعز الإسلام ويذكر الخلفاء بالله وينتهز الفرص المناسبة لخدمة دين الله.

1 ـ منهج عمر في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى:

صعد عمر المنبر، وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه: أيها الناس ! إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك، فلِ أمرنا باليُمن والبركة.
وهنا شعر أنه لا مفر من تحمُّل مسؤولية الخلافة، فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة : أما بعد؛ فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاضٍ، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم، غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً.
أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، و إلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه.
أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لاخرتكم، فإنه من عمل لاخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات... وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها ﷺ، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً.
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوالٍ ، ثم نزل.
وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين.
ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسة التي قرر عمر بن عبد العزيز اتباعها في الحكم؛ وهي:
أ ـ التزامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين على أساس أنه حاكم منفذ، وأن الشرع بيِّن من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله، ورفضه للبدعة والاراء المحدثة.
ب ـ حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب:
ـ أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه، وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس، وينظر فيها.
ـ أن يعينه على الخير ما استطاع، أي أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه، وبالتالي يحذره من أي شر.
ـ فرض على من يقترب إليه فريضة أن يرشده، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة، وخير الدين.
ـ نهى من يريد أن يتقرب إليه، عن أن يغتاب إليه أحداً.
ـ أن لا يتدخل أي متقرب منه في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه عامة.
لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية، وعلى أسلوب الحكم، فاثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى في نطاق شرع الله، دون أن يبعدهم نهائياً؛ لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير، ويعينوه عليه، وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج .
جـ كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت، ويتعظوا به.
د ـ قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى.
هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد بعد بيعته، فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، وقد اثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك، ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله، وقد كانت هذه الكتب نوعين: ـ كتب إلى العمال يبصِّرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي، والخاص إزاء الرعية، وسوف نتحدث عن ذلك بإذن الله.
ـ وكتب إلى عماله القواعد التي حددت سياستهم، وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام.
وعمر في هذه الكتب ـ كما سيظهر بإذن الله ـ تكلم عن موقفه كفقيه متبحر في أصول الدين ، وسيأتي الحديث عن منهجه من خلال أعماله.

2 ـ الحرص على العمل بالكتاب والسنة:

من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة ونشر العلم بين رعيته وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به ، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال في إحدى خطبه: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً؛ فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلأن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص . وقال أيضـاً: فلو كان كل بدعـة يميتها الله على يدي وكل سنة يعيشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي اخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً. وفي موضع اخر قال: والله لولا أن أنْعِشَ سُنَّةً، أو أسير بحق، ما أحببت أن أعيش فواقاً .
لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسؤولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتفقيههم إلى مختلف أقاليم الدولة وفي حواضرها وبواديها، وأمر عماله على الأقاليم بحثِّ العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث إلى عماله: ومر أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مجالسهم ، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأْمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت .
كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء ليتفرغوا لنشر العلم، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس والبدو ، وذكر الذهبي أن عمر ندب يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويقرئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله.
ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولى القضاء، وأسهم أكثرهم بالإضافة إلى نشر العلم في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس وتفصيلهم لأمور دينهم له أبعاد سياسية واثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه فيه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارجوغيرهم.

3 ـ الشورى في دولة عمر بن عبد العزيز:

قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ٣٨} [سورة الشورى:38] . وقال تعالى: {فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ} [سورة آل عمران:159]. وقد اهتم بن عبد العزيز بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى: إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم ، وكان أول قرار اتخذه عمر بعدما ولي أمر المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعله أساساً في إمارته، حين دعا من فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً ـ كما مر معنا ـ حري بمن جعل الشورى أحد مبادئ إمارته حين كانت مسؤوليته جزئية أن يطبقه وقت المسؤولية الكاملة، والمهمة العظمى، ألا وهي ولاية أمر المسلمين كافة، وقد تبين مبدأ الشورى من أول يوم في خلافته، وقال للناس: أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر، من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، (فاختاروا لأنفسكم)، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فَلِ أمرنا باليمن والبركة .
وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبناه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى والانتخاب، ولم يكتفِ عمر باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ: .. وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم، وإن هم أبوا فلست لكم بوالٍ، ثم نزل.
وقد كتب إلى الأمصار الإسلامية فبايعت كلها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له أنه في الخلافة ليس براغب، فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا.
وبذلك يتضح أنه لم يكتف بمشورة من حوله، بل امتد الأمر إلى جميع أمصار المسلمين، ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:
أ ـ أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقة الأصول الشرعية في تولي معظم الخلفاء الأمويين.
ب ـ حرص عمر على تطبيق الشورى في أمر يخصه هو، ألا وهو توليه الخلافة.
جـ أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلافة حريٌّ بتطبيقه فيما سواه.
وكان عمر يستشير العلماء، ويطلب نصحهم في كثير من الأمور؛ أمثال: سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرطبي، ورجاء بن حيوة وغيرهم، فقال: إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ. كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال .
وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لما تولى الخلافة، فقرب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة، ولم يكتفِ ـ رحمه الله ـ بانتقاء بطانته، بل كان زيادة على ذلك يوصيهم ويحثهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني، ثم قل: يا عمر ما تصنع ؟! وقـد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثر في شد أزره، وسداد رأيه وصواب قراره، فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز تقريبه لأهل العلم والصلاح وانشراح صدره لهم ومشاركتهم معه لتحمل المسؤولية، فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للإسلام والمسلمين.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022