من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(سياسة الخليفة عمر بن عبد العزيز في رد المظالم)
الحلقة: 155
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ فبراير 2021
قال تعالى : {۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ } [سورة النحل:90] ، وأَمْرُ اللهِ بفعلٍ كما هو معلوم يقتضي وجوبه. قال تعالى: {۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا [سورة النساء:135] ، وللعدل صورتان:
صورة سلبية: بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، أي: بمنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة اثار التعدي الذي يقع عليهم، وإعادة حقوقهم إليهم، ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب العقوبة .
وصورة إيجابية: وتتعلق أكثر ما تتعلق بالدولة، وقيامها بحق أفراد الشعب في كفالة حرياتهم وحياتهم المعاشية، حتى لا يكون فيهم عاجز متروك، ولا ضعيف مهمل، ولا فقير بائس، ولا خائف مهدد، وهذه الأمور كلها من واجبات الحاكم في الإسلام .
وقد قام أمير المؤمنين عمر بهذا الركن العظيم والمبدأ الخطير على أتم وجه، وكان يرى أن المسؤولية والسلطة هي القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة، وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة ، وقد أحب الاستزادة من فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة الفريدة الحميدة، فكتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين؛ يربِّي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العـدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا
تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد، وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله .
ـ أمير المؤمنين يبدأ بنفسه:
تنفيذاً لما أراده عمر من رد المظالم مهما كانت صغيرةً أو كبيرةً بدأ بنفسه، روى ابن سعد: أنه لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم، قال: إنه لينبغي أن أبدأ بأول من نفسي . وهذا الفعل جعله قدوة للاخرين، فنظر إلى ما في يديه من أرض، أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم. فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب، فخرج منه . وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية، وعمالهم وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: كان سيف أبي محلى بفضة، فنزعها وحلاه حديداً ، وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، ذلك أنه حين استخلف نظر إلى ما كان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل . أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه.
يروي ابن الجوزي عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حتى تفرق الناس ودخل إلى أهله للقائلة، فإذا منادٍ ينادي: الصلاة جامعة. قال: ففزعنا فزعاً شديداً مخافة أن يكون قد جاء فتق من وجه من الوجوه أو حدث. قال جويرية: وإنما كان أنه دعا مزاحماً فقال: يا مزاحم، إن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليَّ ليس علي فيه دون الله محاسب.
فقال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكِلهم إلى الله؟
قال: ثم انطلق مزاحم من وجهه ذلك حتى استأذن على عبد الملك، فأذن له ـ وقد اضطجع للقائه ـ فقال له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حدث حدث؟ قال: نعم، أشد الحدث عليك وعلى بني أبيك. قال: وما ذاك؟ قال: دعاني أمير المؤمنين ـ فذكر له ما قاله عمر ـ فقال عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت له: يا أمير المؤمنين، تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع ويقول: أكِلهم إلى الله تعالى. قال عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم ! ثم وثب فانطلق إلى باب أبيه عمر، فاستأذن عليه، فقال له الاذن: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه الوقعة؟! قال عبد الملك: استأذن لي، لا أم لك. فسمع عمر الكلام، فقال: من هذا؟ قال: هذا عبد الملك. قال: ائذن له. فدخل عليه ـ وقد اضطجع عمر للقائلة ـ فقال: ما حاجتك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديث حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي على إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه. ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر. قال عمر: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس. فنادى المنادي: الصلاة جامعة. قال: فخرجت فأتيت المسجد فجاء عمر فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها وما كان لنا أن نقبلها. وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي: اقرأ يا مزاحم.
قال: وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال: جرنة فيها تلك الكتب. قال: فقرأ مزاحم كتاباً منها، فلما فرغ من قراءته ناوله عمر ـ وهو قاعد على المنبر وفي يده جلم ـ قال: فجعل يقصه بالجلم. واستأنف مزاحم كتاباً اخر ... فجعل يقرؤه، فلما فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه، ثم استأنف كتاباً اخر... فما زال حتى نودي بصلاة الظهر . ومن بين ما ردَّه عمر مما كان في يده من القطائع جبل الورس باليمن، وقطائع باليمامة ، إلى جانب فدك وخيبر، والسويداء، فخرج منها جميعاً إلا السويداء، فقد قال عمر فيها: ما من شيء إلا وقد رددته في مال المسلمين إلا العين التي بالسويداء؛ فإني عمدت إلى أرض براح ليس فيها لأحد من المسلمين ضربة سوط، فعملتها من صلب عطائي الذي يجمع لي مع جماعة المسلمين، وقد جاءت غلتها مئتا دينار .
وأما قرية فدك ـ التي تقع شمال المدينة ـ فقد كانت تغل في السنة عشرة الاف دينار تقريباً، فلما ولي عمر الخلافة سأل عنها وفحصها، فأخبر بما كان من أمرها في عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان...فكتب ـ بناء على ذلك ـ إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً قال فيه: أما بعد فإني نظرت في أمر فدك وفحصت عنه، فإذا هو لا يصلح لي، ورأيت أن أردها على ما كانت عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وأترك ما حدث بعدهم، فإذا جاءك كتابي هذا فاقبضها وولِّها رجلاً يقوم فيها بالحق والسلام .
وأما الكتيبة فهي حصن من حصون خيبر، وعندما تولى عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: افحص لي عن الكتيبة، أكانت من خمس رسول الله ﷺ من خيبر، أم كانت لرسول الله خاصة؟ قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله ﷺ لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق خمسة أجزاء، فكانت الكتيبة جزءاً منها، وأعادها عمر بن عبد العزيز إلى ما كانت إليه في عهد رسول الله .
كما أرجع عمر للرجل المصري الذي أرضه بحلوان بعد أن عرف أن والده عبد العزيز قد ظلم المصري فيها، وحتى الدار التي كان والده عبد العزيز بن مروان قد اشتراها من الربيع بن خارجة الذي كان يتيماً في حجره، ردها عليه، لعلمه أنه لا يجوز اشتراء الولي ممن يلي أمره.
ثم التفت إلى المال الذي كان يأتيه من جبل الورس باليمن، فرده إلى بيت مال المسلمين رغم شدة حاجة أهله إلى هذا المال، لكنه كان يؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمر عمر بن عبد العزيز مولاه مزاحماً بردِّ المال الذي كان يأتيه من البحرين كل عام إلى مال الله .
وهكذا بدأ عمر بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته حين رد من أملاكه كل ما شابته شائبة الظلم، أو الشك في خلاص حقه فيه، فرد كل ذلك إلى أصحابه، انطلاقاً من تمسكه بالزهد، وإيمانه بردِّ المظالم إلى أصحابها تقوىً لله، ووضعاً للحق في نصابه، وبعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق؛ اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان لها جوهر ـ فقال لها عمر: من أين صار هذا المال إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت ، وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله: قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك فلعمري ليردنه إليك. قالت له: افعل ما شئت، وفعل ذلك. فمات ـ رحمه الله ـ ولم يصل إليه، فرد ذلك عليها أخوها يزيد بن عبد الملك، فامتنعت من أخذه، وقالت: ما كنت لأتركه ثم اخذه، وقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه.
ـ رد مظالم بني أمية:
وإذا كان عمر قد بدأ بنفسه في رد المظالم؛ فقد ثنَّى في ذلك بأهل بيته وبني عمومته وبإخوته من أفراد البيت الأموي، وفور فراغه من دفن ابن عمه سليمان بن عبد الملك، فقد رأى ما أذهله؛ وهو: أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي ﷺ، أو خلفائه الراشدين، فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم، ومن تلك المظاهر: المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال، ولكل دابة سائس، ومنها أيضاً تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد، وفوجأى بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها؛ فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا مبرر له يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمسِّ الحاجة لكل درهم فيه لينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين .
ولقد كانت لعمر بن عبد العزيز سياسة محددة في رد المظالم من أفراد البيت الأموي تكون لديه خطوطها فور تسلمه زمام الخلافة، حين وفد عليه أفراد البيت الأموي عقب انصرافه من دفن سليمان يسألونه ما عودهم الخلفاء الأمويون من قبله، وحين أراد عبد الملك أن يرد أفراد البيت الأموي عن أبيه كشف له أبوه عن سياسته تلك حين قال له: وما تبلغهم؟ قال: أقول: أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: {قُلۡ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ } [سورة الزمر:13]. ثم أوضحها له مرة أخرى حين جاءه يطالبه بالإسراع باستخلاص بأيدي الأمويين من مظالم، فقال: يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم امن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليَّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟! ثم زاد في توضيح سياسته تلك حينما قال له ولده عبد الملك: ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور، قال: وحق هذا منك، قال: نعم والله ! قال عمر: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني، إني لو باهتُّ الناس بالذي تقول لم امن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بداً من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، يا بني ! إني أروض الناس رياضة صعبة، فإن بطأ بي عمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي وأن تعدو منيتي، فقد علم الله الذي أريده .
وهكذا يتبع عمر أسلوب الحكمة والحسنى في تنفيذ سياسته، وتطبيقاً لهذه السياسة فإنه قد مهَّد لهذه الخطوة الحاسمة، والخطيرة بخطوات تسبقها خروجه هو أولاً مما بيده من مظالم، وردّها إلى أصحابها، أو بيت المال، ثم اتجه إلى أبناء البيت الأموي، فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق .
وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسع النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا.. وها هي الان ترد إلى بيت مال المسلمين لكي يأخذ العدل مجراه، وتعود أموال المسلمين إلى المسلمين، لا يستأثر بها أحد دون أحد، ولا حزب دون حزب.. أموال وأملاك من شتى الصنوف والأنواع، جمعت بمختلف الطرق وسائر الأساليب؛ جرَّد عمر بني أمية منها ومزق مستنداتها واحدة واحدة، وردها إلى مكانها الصحيح: مظالم وجوائز وهدايا ومخصصات استثنائية وضياع وقطاع، جمعت كلها على شكل ممتلكات ثابتة ونقود سائلة بلغت في تقدير عمر شطراً كبيراً من أموال الأمة جاوزت النصف .
ولا تمضي سوى أيام معدودات حتى يجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فماذا يكون جواب عمر ؟ انظروا: والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه ثم يعود كما كان حياً، فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها ، ولكن بني أمية لم ييأسوا من هذا الحزم والعزم إزاء حقوق الأمة، وهم الذين ما خطر ببالهم يوماً أن يجردوا هذا التجريد، فاجتمعوا وطلبوا من أحد أولاد الوليد ـ وكان كبيرهم ونصيحهم ـ أن يكتب إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد، فإنك أنسيت ممن كان قبلك من الخلفاء، وسرت بغير سيرتهم، وسميتها المظالم نقصاً لهم لأعمالهم، وشاتماً لمن كان بعدهم من أولادهم، ولم يكن ذلك لك، فقطعت ما أمر الله أن يوصل، وعملت بغير الحق في قرابتك، وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم وحقوقهم فأدخلتهم بيت مالك ظلماً وجوراً وعدواناً، فاتق الله يابن عبد العزيز وأرجعه، فإنك قد أوشكت لم تطمئن على منبرك إن خصصت ذوي قربتك بالقطيعة والظلم، فوالله الذي خص محمداً ﷺ بما خصه من الكرامة لقد ازددت من الله بعداً في ولايتك هذه التي تزعم أنها بلاء عليك، وهي كذلك، فاقتصد في بعض ميلك وتحاشيك .
ويظهر في هذا الكتاب مآخذ الأمويين على سياسة عمر؛ وهي:
ـ خالف سيرة من قبله من الخلفاء وأزرى بهم وعاب أعمالهم.
ـ أساء إلى أولاد من قبله من الخلفاء.
ـ لم يكن عمله منسجماً مع الحق.
ـ إن قطيعة أهل بيته يهدد مكانه من الخلافة.
ولا ريب أن سياسة عمر بن عبد العزيز تهدد مكانة الأسرة الأموية وتضعف مراكز قوتها، وقد تؤدي إلى دفعها لاتخاذ مواقف مهددة للخليفة القائم، وفي هذا خطر كبير عليه وعلى الخلافة، وكان رد عمر حمماً من نار الحق تتفجر في كل كلمة فيها: .. ويلك وويل أبيك ما أكثر طلابكما وخصمائكما يوم القيامة !!. رويدك فإنه لو طالت بي حياة، وردَّ الله الحق إلى أهله، تفرغت لك ولأهل بيتك، فأقمت على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وراءكم.
ـ بنو أمية يلجؤون إلى أسلوب الحوار الهادئ:
وما أن يئس بنـو أميـة أمام صمود عمر إزاء معارضتهم الجماعيـة الشديدة هذه، لجؤوا إلى أسلوب الحوار الهادأى، علَّهم يصلون عن طريقـه إلى ما يشتهون، فيتكلمون معه يوماً مستثيرين فيه نزعة القربى وعاطفة الرحم، فيجيبهم: أن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ أي المال العـام ـ فحقكم فيه كحق أي رجل من المسلمين. والله أني لا أرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يـرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله .
ودخل عليه هشام بن عبد الملك يوماً فقال: يا أمير المؤمنين ! إني رسول قومك إليك، وإن في أنفسهم ما جئت لأعلمك به: إنهم يقولون: استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك، وخلِّ بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم ولهم، وببديهة يجيب عمر: أرأيت إن أتيت بسجلين: أحدهما من معاوية، والاخر من عبد الملك؛ فبأي السجلين اخذ؟ قال هشام: بالأقدم. فأجاب عمر: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني
ـ بنو أمية يرسلون عمة عمر بن عبد العزيز:
فعندما عجز الرجال من بني أمية عن جعل عمر يخاف أو يلين عن سياسته إزاءهم، لجؤوا إلى عمته فاطمة بنت مروان، وكانت عمته هذه لا تحجب عن الخلفاء، ولا يرد لها طلب أو حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل استخلافه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها كعادته، وألقى لها وسادة لتجلس عليها. فقالت: إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك، قال: ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم، فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره. قال: فدعـا بدينار، وجنب، ومجمرة، فألقى ذلك الدينار بالنار، وجعل ينفخ على الدينار وإذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجمر فنشى وقتر، فقال: أي عمه أما ترثين لابن أخيك من هذا ؟ وتؤخذ العمة بهذا المشهد المؤثر، وتلتفت إلى عمر طالبة منه أن يستمر في الكلام، واسمعوه يقول وكأنه يرسم لوحة فنية رائعة للعدالة الاجتماعيـة التي جاء بهـا الإسلام لكي يجعلها تفجر الخير والنعيم على الجميع، قـال: إن الله بعث محمداً ﷺ رحمـة ولم يبعثـه عذابـاً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم فيه سواء، ثم ولي أبو بكر وترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم لم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك وابنه الوليد وسليمان أبناء عبد الملك، حتى أفضى الأمر إليَّ وقد يبس النهر الأعظم، فلم يروِ أصحابه حتى يعـود إلى ما كان عليـه، فقالت: حسـبك، قـد أردت كلامك، فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهم كلامه ، وجاء في رواية: إنها قالت لهم: .. أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده. فسكتوا .
ـ تلاشي المعارضة الجماعية لبني أمية:
وسرعان ما تلاشت السمة الجماعية لمعارضة بني أمية بعد ما رأوا من جد عمر إزاء أموال الأمة، وقالوا: ليس بعد هذا شيء . ومن ثم أخذ كل منهم يسعى على انفراد ليسترد ما يستطيع استرداده من الأموال، ولكن عمر الذي وقف تجاه رغباتهم مجتمعين، أحرى به الان أن يتصدى لكل واحد منهم على انفراد ويعلمه أنّ حق الأمة لا يمكن أن يكون موضع مساومة في يوم من الأيام .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com