تأملات في الآية الكريمة {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 272
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1444ه/ أبريل 2023م
1. قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}:
في قوله دليلٌ على أنه أشدّ الناس بغضاً للأصنام وإدراكاً لضلال من يعبدونها، ولذلك أسند الإضلال إلى الأحجار، مع أن الإضلال من الشيطان الذي ابتدع الأوهام حولها؛ وذلك لأنّهم لما عبدوها وأحاطوها بأوهام كثيرة، وصار الوهم يولّد وهماً وتوالت وتكاثرت كلَّها، صحّ إسناد الإضلال إليها، وعبَّر عليه السلام عن الذين ضلوا بأنهم كثير وليسوا عدداً قليلاً، وذلك لعموم الضلال بها، وعمومه لا يجعلها حقاً، بل هي باطل {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ]الأنعام:116[، وإن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم عليه السلام، وهم يتشرفون بنسبتهم إليه، وهو باني الحرم الشريف المقدس، فيه بيان أنه بريء منهم ما داموا يعبدون الأوثان، ولذا قال عليه السلام في دعائه.(1)
2. قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}:
ملة إبراهيم عليه السلام هي التوحيد،كما قال تعالى: {..مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ]النحل:123[، فمن تبعه في ملته، فإنه منه ومفهوم هذا أن من لم يتبعه في التوحيد وعبد الأوثان فليس منه؛ لأن اشتراط كونه موحداً ليكون منه، لئن لم يتبعه لا يكون منه، بل هو بريء منه، كما تبرأ من أبيه، وكما تبرأ من قومه.(2)
إنَّ إبراهيم - عليه السّلام - قصد بالتبعيّة هنا، أي السير على ملته، وأن يكون التابع حنيفاً مسلماً، ولا أدل على ذلك من تأكيد الخبر بأن المؤكدة في قوله: {فَإِنَّهُ مِنِّي}، ولنتأمل هنا جلال التعبير إضافة إلى جماله في قوله: {مِنِّي}، إنَّ الجلال يكمن في كون التابع بعضاً من متبوعه لفرط اختصاصه به ولا يخفى على أحد الجمال في سلامة التعبير وحسن الصياغة ولطف الوَقع.(3)
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: فمن تبعني في دعوتي إلى التوحيد والاستسلام لله - سبحانه وتعالى - وشرعه، فإنه على ديني وملّتي ومن المتمسكين بحبلي.(4)
3. قوله تعالى: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:
في هذا تبدو سمة إبراهيم - عليه السّلام – ظاهرة، فهو العطوف الرحيم الأواه الحليم، فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه، ولا يستعجل لهم العذاب، بل لا يذكر العذاب، إنّما يكِلهم إلى غفران الله ورحمته، ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة، وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية؛ فلا يكشف عند إبراهيم الرحيم الحليم.(5)
ويتجلى هنا بوضوح أدب الخليل مع ربه، حيث لم يقل: ومن عصاك، مع العلم بأن معصية الرسل في الحقيقة معصية لمن أرسلهم وهو الله تعالى، وكأنه تعاظم في نفسه أن يجرؤ العباد على معصية الله، فعبّر عن عدم اتباعهم له واسترشادهم برسالته بالعصيان له تأدباً وتجملاً في التعبير.(6)
مراجع الحلقة الثانية والسبعون بعد المائتين:
(1) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (8/4036).
(2) المرجع نفسه (8/4036).
(3) وجوه البيان في دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، سميرة عدلي محمد رزق، ص234.
(4) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (4/3289).
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2109).
(6) دعاء الأنبياء والرسل، محمد محمود أحمد وموسى الخطيب، ص100.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي