﴿إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا﴾
تأملات في الآية الكريمة
الحلقة: 43
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
إنّ التّصريح باسم يوسف عليه السلام وإخفاء اسم الأخ الآخر دلالته أن القوم مغتاظون من يوسف، وأمّا أخوه فليس بذي شأن بالنسبة ليوسف، فألحقوه إلحاقاً.
وثمّة لفتة قد نبّه عليها الدكتور حسن باجودة في كتابه "الوحدة الموضوعية": عن بروز ضمير المتكلم في هذه الآية والتأكيد على ذواتهم في معرض الحديث عن تشخيص الواقع الّذي يعيشون، فانظر كم مرّة تردد ضمير المتكلم في نصف سطر: (أبينا)، (منّا)، (ونحن عصبة)، (إنّ أبانا). وهنا ننبّه إلى أنّ الوهم قد يسيطر على الإنسان فيقع الإنسان فريسة له وهذا الّذي حدث مع أبناء يعقوب، وهل كان ثمّة شيء من الّذي قالوه، أم أنّها خيالاتهم السقيمة، وإلا فإنه لا يعقل من نبي كريم كيعقوب أن يقع منه ما يستوجب ثورة هؤلاء الأبناء ولا حقدهم على أخيهم. ولئن كان مميزاً يحبّ، فهذا لا جريرة ليوسف منه، فإن كان من خطأ فليس هو مخطئاً.
يدّعي الإخوة أنّهم أحقّ بالحب من يوسف لأنّهم عصبة. والعصبة كما في الكشاف: العشرة فصاعداً، (1)وكما في مفردات الراغب: الجماعة المتعصبة المتعاضدة، وكما في النهاية لابن الأثير: من العشرة إلى الأربعين.(2) والاثنان لا يطلق عليهما لغة عصبة، وكأن الإخوة يقولون: نحن عصبة وليس هذان بعصبة. وهذا الّذي قالوه من أفضليتهم، عنوان على فساد قياسهم؛ إذ متى كانت الكثرة عنوان الأفضلية ومعيارها، فمثقال من ذهب خير من مئة من تراب.
إن المقدّمات الفاسدة تؤدي إلى نتائج فاسدة، فإخوة يوسف افترضوا أنّ أباهم في ضلال مبين وأنّه يحبّ أخاهم أكثر منهم رغم أنّهم عصبة، ثمّ تصرفوا بناءً على هذا التصور، والنتيجة أنّهم ندموا ندماً عظيماً، فلم يخْل لهم وجه أبيهم كما افترضوا، ودفعوا نتيجة فعلهم والله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 81].
لقد أساؤوا الظنّ، وحسدوه على منزلته وأخاه من أبيه، والحسدُ داء عضال قتال، وهو نكد في الدنيا وخسارة في الآخرة؛ لذا جاء النهي عنه صريحاً واضحاً: "ولا تحاسدوا"، وفي الحديث الآخر قال ﷺ: " دبّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتّى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم".
ورُوري عنه ﷺ أنّه قال: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: العشب"، وتُكلّم في ثبوته.(3)
ومما يُحكى عن بعض السلف قوله: " لا تعادوا نعم الله. قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الّذين يحسدون النّاس على ما آتاهم الله من فضله".(4)
إنّ هذا الذنب العظيم الّذي وقع فيه إخوة يوسف ابتداء كان مقدمة فاسدة، ثمّ كان بدورة مقدمة لفعل أشنع. ومما يحسن التنبيه إليه هنا، هو أنّ حبّ يعقوب ليوسف عليه السلام لم يكن سبباً يستحق لأجله يوسف ما فعله به إخوته، وهنا يحسن التنبيه إلى أنّه قد أخطأ من خطّأ يعقوب، وشارك بعض من تكلم في الآيات بطريق مباشر أو غير مباشر في تخطئة يعقوب عليه السلام في حبّه لابنه، والصواب أنّ حبّ يعقوب ليوسف عليه السلام حبّ طبيعي بشريّ له مسوّغاته العقليّة والفطريّة والشرعيّة، ومنها:
- كان يوسف عليه السلام من أصغر إخوانه وكما هو مسلّم به عند كلّ أب وأم أنّ للصغير حباً خاصاً تظهر فيه معاني الحنان والشفقة، والكبير محبوب أيضاً ولكن يعكس هذا الحبّ التقدير والاحترام والاعتزاز بالابن، فمثلاً النبيّ ﷺ كان يحبّ فاطمة ويحب ابنيها رضي الله عنهم، ولكن كان أسلوبه في استقبالهم والتعامل معهم مختلفاً، فكان إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها وقبّلها ورحب بها وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه.(5) أماّ ابناها فقد روي أنّ رسول الله ﷺ خرج إلى طعام دعي له فإذا حسين يلعب مع الغلمان في الطريق، فاستقبله أمام القوم، ثمّ بسط يده وطفق يمر هاهنا مرّة وها هنا مرّة، وجعل رسول الله يضاحكه حتّى أخذه رسول الله ﷺ، فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه، ثمّ أقنع رأسه فوضع فاه على فمه وقبله.(6) وورد غيره في هذا المعنى. والشاهد، أنّ حبّ يعقوب ليوسفَ كان حبّاً فطرياًّ يلائم سنّه. ويحكى أنّ أعرابيّاً سئل: من أحب أبنائك إليك؟ فقال: أصغرهم حتّى يكبر، وغائبهم حتّى يحضر، ومريضهم حتّى يشفى.(7)
- قال الدكتور عليّ القره داغي: فقد كان تقدير الإخوة للأمر غير صحيح، وحكمهم على أبيهم بأنه يفرّق بينهم حكماً ظالماً؛ لأنّ أباهم كان يحبّ يوسف وأخاه بنيامين، لأنّهما كانا صغيرين توفيت أمّهما في حين أن إخوتهما العشرة كانوا كباراً، ومن أمّ واحدة ما زالت موجودة معهم، فيكون من الطبيعي أن يكون حبّ يعقوب لهما لصغرهما وفقدان أمهما حتّى يعوضهما حنان الأم. وقد اعترف الإخوة بأن يعقوب يحبهم، ولكن حبّه يوسف وأخاه كان أكثر، وهذا يدل على التعبير بكلمة ﴿أحبّ﴾، فهم بيّنوا استحقاقهم لحب أكبر، لأنهم عصبة قوية، تقوم بواجبات البيت، وهذا باطل لما تقّدم.(8)
- ولا جناح على المرء أن يحبّ أحد أبنائه، أو إحدى زوجاته حباً يفوق حبه لبقية أبنائه أو زوجاته، ما لم يتسبب هذا الحبّ في ظلم الباقين. ويعقوب عليه السلام لم يظلم بقيّة أبنائه وحاشاه. (9)
إنّ الشخص لا يلام على محبّته لبعض أبنائه دون بعض، أو بعض النّاس دون بعض؛ إذ المحبة من الله تعالى، فهو الّذي يلقيها في قلوب العباد، فهذا النبيّ ﷺ قال: "إذا أحبّ الله عبداً نادى جبريل! إن الله يحبّ فلاناً فأحبه، فيحبّه جبريل. فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبّ فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض".(10)
هذا، وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه موسى عليه السلام: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]. وقال نبينا محمّد ﷺ في شأن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: " إنّي رزقت حبّها". وكان رسول الله ﷺ يحبّ عائشة رضي الله عنها حبّاً خاصاً، لكنّه كان تامّ العدل. والإنسان بإمكانه أن يقوم بالعدل، لكن ليس بإمكانه التحكم في ميل قلبه؛ ولهذا لمّا سئل رسول الله ﷺ كما في الصحيح من حديث عمرو بن العاص، قال: أي النّاس أحبّ إليك؟ قال عائشة. قلت: من الرجال؟ قال: أبوها. قلت: ثمّ من؟ قال: عمر بن الخطاب. فعد رجالاً.(11) وروي عنه ﷺ أنه كان يقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.(12)
مراجع الحلقة الثالثة والأربعون:
1 الكشاف، (2/304).
2 النهاية، ابن الأثير، (2/204).
3 سنن أبي داود، رقم: 4903.
4 آيات للسائلين، ص 111.
5 سنن أبي داود، رقم: 5217.
6 سنن الترمذي.
7 آيات للسائلين، ص 114.
8 يوسف عليه السلام، د علي القره داغي، ص 43.
9 آيات للسائلين، ص 114.
10 رواه البخاري، رقم: 3209.
11 رواه البخاري، رقم: 3662.
12 سنن أبي دواد، رقم: 2134.
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي