الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

الحلقة: 44

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

والعصبة من عدد عشرة فما فوق. والعصبة أيضاً هم المتكاتفون المتعصبون لبعضهم البعض، وهم الّذين يقومون بالمصالح، ويقضون الحاجات، وقد تقاعد أبوهم، وترك لهم إدارة أعمال العائلة وقالوا: ما دُمْنَا نقوم بمصالح العائلة، فكان من الواجب أن يَخُصَّنا أبونا بالحب ولم يلتفتوا إلى أنّهم عُصْبة، وهذا ما جعل الأب يحبهم، لكنّه أعطى مَنْ ليسوا عصبة مزيداً من الرعاية، ولكنهم سدروا في غَيِّهم، ووصلوا إلى نتيجة غير منطقية وهي قولهم: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [يوسف: 8].(1) أي: إنّه بعيد عن الصّواب. وأكّدوا ذلك بقولهم: ﴿إنّ﴾ المؤكدة. و ﴿اللام﴾ في قوله ﴿لفي ضلال مبين﴾، والتعبير: ﴿لفي﴾، فيه إشارة إلى أنّ الضلال محيط به إحاطة عظيمة. وسيطر الشيطان على نفوسهم فحرّك الحسد إلى أقصى غاياته.(2)

قال محمّد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -: الظاهرُ ‌أَنَّ ‌مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الّذي وصفوا به أباهم- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة -إنّما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي. ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب، فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ وقوله تعالى في نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾ أي لست عالمًا بهذه العلوم الّتي لا تعرف إلّا بالوحي، فهداك إليها وعلمك بما أوحى إليك من هذا القرآن العظيم. ومنه بهذا المعنى قول الشاعر:

وتظنُّ سلمى أنّني أَبغي بها بدلًا أراها في الضلال تهيمُ

يعني: أنَّها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنّه يبغي بها بدلًا وهو لا يبغي بها بدلًا. وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين، إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارًا، وإنّما مرادهم أن أباهم -في زعمهم- في ذهاب عن إدراك الحقيقة، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به، حيث آثر اثنين على عشرة، مع أن العشرة أكثر نفعًا له، وأقدر على القيام بشئونه وتدبير أموره.

واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين:

أحدهما: الضلال في الدين، أي الذهاب عن طريق الحق الّتي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، وهذا أشهر معانيه في القرآن؛ ومنه بهذا المعنى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ إلى غير ذلك من الآيات. الثاني: إطلاق الضلال بمعنى الهلاك والغيبة، من قول العرب: ضل السمن في الطَّعام، إذا غاب فيه وهلك فيه، ولذلك تسمى العرب الدفن إضلالًا؛ لأنّه تغييب في الأرض يؤول إلى استهلاك عظام الميت فيها؛ لأنها تصير رميمًا وتمتزج بالأرض. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ﴾ الآية.

ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي غاب واضمحل.(3)

مراجع الحلقة الرابعة والأربعون:

زهرة التفاسير، (7/3805).

2 المصدر السابق نفسه، (11/6868).

3 أضواء البيان، محمد الأمين الشنقيطي، دار عطاءات العلم، الطبعة الخامسة، 1441ه، (3/52-53).

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022