تأملات في الآية الكريمة
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الجبّ﴾
الحلقة: 55
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
- ﴿فلما ذهبوا به﴾: إنّ التعبير بلفظ (الفاء) في قوله: ﴿فلما ذهبوا به﴾ مشعر باستعجال الإخوة في التنفيذ، فالفاء للتعقيب المباشر دون التراخي، أي: إنّهم أخذوا يوسف بمجرد الموافقة الّتي قد تكون صريحة، أو ضمنية، لأنّ القرآن الكريم قد طوى ذلك. وقد طوى جواب الشرط (فلمّا) لأنّ جوابه هو جميع نتائج القصّة، وهذا من إعجاز القرآن الكريم وقد حُذف لأجل هذا التعميم، ولا مانع لغويّاً من أن يكون جزاء وجواب: (فلما)، قوله تعالى: ﴿قالوا يا أبانا﴾ في الآية التي بعدها، وفي ذلك دلالة على سرعة التنفيذ والإيقاع.
وإن منهج القرآن الكريم يقبل هذا التنوع العظيم. والتعبير بلفظ: ﴿ذهبوا به﴾ أيّ: بتعدية الفعل بالياء ولم يقل: ذهبوا معه، أو ذهب معهم، وذلك مشعر بالإسراع بالأخذ به بصورة غير وديّة. إنّ إيقاع هذه الجملة الشرطيّة يدلّ على أنّهم بمجرد الموافقة أخذوا بيد يوسف وذهبوا به، ثمّ إنّ وضع جملة: ﴿ذهبوا به﴾ مع: ﴿أجمعوا﴾ مؤذن بالعجلة خوفاً من تراجع الوالد من موافقته الّتي لم يكن مرتاحاً إليها، ولكنّهم حاصروه من كلّ جانب، وأخرجوه بجميع الوسائل، وأعطوه كلّ الضمانات، حتّى استسلم لهذه التوكيدات، فوافق على ذهاب يوسف معهم، ليبدؤوا تنفيذ مراحل هذه الخطة.
إنّ يوسف عليه السلام في هذه الحالة: ﴿فلما ذهبوا به﴾، مغلوب على أمره. يكفي أن نتأمل الصيغة في قوله: ﴿فلما ذهبوا به﴾ حتّى ندرك أنّهم لم يذهبوا معه، ولم يصطحبونه بمودّة، ولم يرافقوه برفق، بل أخذوه أخذاً قسريّاً بعد جهود كثيفة وكذب كثير.
ونعرف أنّ علينا أن ننتظر حدثاً بعد الذهاب به، لورود الآية بصيغة تعليق الذهاب على نتيجة لاحقة، مما يشدّ المستمع لمتابعة أحداث المشهد.(1)
- ﴿وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الجبّ﴾ أي: اتفقوا كلهم على إلقائه في ظلمة الجبّ، وحكى الله تعالى إجماعهم على جريمتهم هذه، لأنّها جريمة فظيعة منكرة، فكلّهم اشتركوا بها وتحمّلوا وزرها، وقاموا بتنفيذها بلا رادع ولا مانع، فلم يهتزّ ضمير واحد منهم في أثناء تنفيذ الجريمة وهو يرى أخاه الصغير خائفاً زائغ البصر، يستجير بصراخه ودموعه، فلا يتحرّك قلب واحد منهم ولا يهتزّ ضميره ووجدانه.
ولا بدّ أنّ يوسف عليه السلام قد فوجئ بعد ابتعادهم عن أبيهم بانفجار أحقادهم المكبوتة في صدورهم، فقد ظهرت فجأة في عيونهم الّتي تنظر إليه، شرراً وتقدح في وجهه ناراً، وفي أيديهم الّتي انهالت عليه ضرباً ولكماً ألا ما أقسى قلوبهم الّتي لم تتأثر باستغاثات أخيهم الصغير ودموعه وهم يدفعونه دفعاً إلى مكان الجريمة، ثمّ وهم يشتركون جميعاً كلهم في إلقائه في ظلمة قعر الجبّ.(2)
وأدركت رحمة الله الغلام الصغير وهو في قعر الجبّ وظلمته، بتحسّس موطئاً لقدميه وموضعاً يستند إليه، وهو يرتعش من برودة الماء ويرتجف من هول الجريمة الّتي فاجأته على غير توقّع وانتظار. خرج مع إخوته طلباً للأنس والانشراح، فإذا به يُلقى في قعر بئر مظلمة، وينتقل من حِجر والده وعطفه عليه وحنانه إلى وحشة الجبّ وظلمتها ورطوبتها، وتداركه الله برحمته ولطفه.(3)
كانت عناية الله ليوسف عليه السلام فوق كلّ عناية، وحفظه فوق كلّ حفظ، قال الشاعر:
وإذا العناية لاحظتْكَ عيونُها نمْ فالمخاوف كلّها أمانُ.
فيوسف عليه السلام نزل في الجبّ وهو بحالة الذلّ ولم يغادره إلّا وهو موحى إليه.(4)
- ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾: اختلف فيه المفسرون فذهب بعضهم إلى أنّ المراد بالوحي هنا وحيُ النبوّة والرسالة، ولكن يعكّر صفوه أن يوسف لم يكن بالغاً، بل كان صغيراً.(5) قال الضحاك: كان عمره ستّ سنين، وقال الحسن: ألقي يوسف في الجبّ وهو ابن اثني عشرة سنة، ولقي أباه بعد ثلاثين سنة،(6) والله أعلم. ولذلك أجابوا عنه بأنّ الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوّة. وذهب جماعة أخرى إلى أنّ هذا الوحي هنا هو الإلهام، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7]. (7)
وأيّاً ما كان، سواء بوحي إلهام، أو بوحي النبوّة، الله سبحانه هو أعلم بذلك، المهم أن الله سبحانه تداركه برحمته ولطفه، بما سكّن نفسه المضطربة، وأزال وحشته وخوفه، فشعر أنّ الله معه يرعاه ويرحمه، ويلطف به، وأنّه سينجيه من محَنه، ويظهره أيضاً على إخوته، حتّى يأتي الوقت الّذي يذكّرهم فيه بجريمتهم هذه.(8)
مراجع الحلقة الخامسة والخمسون:
1 لطائف التفسير، د. فؤاد العريسي، ص 61.
2 التفسير الموضوعي، (4/143).
3 المصدر السابق نفسه، (4/143).
4 يوسف وقصته العجيبة، عليش متولي، ص 90.
5 يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 57.
6 البكاء والقيم الجمالية له بصيغة الجمع في النصوص القرآنية، د. قاسم صالح العالي ، 1437ه – 2016م، ص 256.
7 يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 58.
8 التفسير الموضوعي، (4/143).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي