الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾:

الحلقة: 59

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

 

- ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾: نلاحظ فيها غضباً شديداً من وصف الدم بأنه كذب والدم مكذوب به، ولو بالغت قلت: دم كاذب، لأنّ الدم لا يكذب، وإنّما أُسند إليه الكذب للمبالغة، والتعبير في الآية لم يقل بدم كاذب، وإنّما جعل الدم نفسه كذباً. ومن غباء أهل الباطل أنّ القميص الّذي جاءوا به، وعليه الدم الكذب، ليكون دليل صدقهم في أن الذئب أكل يوسف عليه السلام كان هو دليل كذبهم، لسبب ظاهر لا يخفى، على من عنده قدر ضئيل من الفكر، وهو أن هذا الدم لو كان دم يوسف وأكله الذئب لكان القميص ممزّقاً، ويستحيل أن يأكله الذئب، ويبقى القميص غير ممزق، ولذلك لم يلتفت يعقوب عليه السلام إلى هذا وضرب عنه صفحاً، ولم يناقش، ولم يبيّن الكذب وإنّما قال:(1)

- ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾: وهذا القول من يعقوب عليه السلام إضراب عن تكذيب صريح، تقديره: إن الذئب لم يأكله، بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً. ومعنى: ﴿سوّلت﴾ أي: زينت وسهّلت. والتسويل: تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن. وجاء لفظ: ﴿أمراً﴾ منكّراً فهو أمر عظيم منكر اقترفوه في حق يوسف عليه السلام.(2) فكأنه كان يرى أنّهم عملوا معه مكيدة ولا بدّ، ولكن كان لا يراها إلّا إجمالاً؛ لأنها لم تتعين عنده صورتها، إذ اشتبه في نظره شكلها واختلط، وغمّ عليه أمرها واستعظم. والتنكير في ﴿أمراً﴾ إمّا للتعظيم والتفخيم، كأنه يقول: أمراً عظيماً ارتكبتموه في يوسف وهوّنته عليكم نفوسكم، أمراً ذا بال، أمراً من نوع الدهاء، أمراً فيه دسيسة ومكر أو للإيهام فكأنه يقول: أمراً لا يعلمه إلّا أنتم ويوسف.(3)

- ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾: وهذه الجملة الثانية في رده على بنيه، وخاطب بها نفسه، أي: فصبري صبر جميل لا يشوّه جماله جزع اليائسين من روح الله، القانطين من رحمة الله ولا الشكوى إلى غير الله.(4)

﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ أي: فشأني وحالي صبر لا جزع منه ولا شكوى فيه للخلق، مع الرضا بقدر الله تعالى وقضائه.(5) فالشكوى لغير الله مذلّة وكلما ارتفع مستوى الإيمان، وجدت المؤمن يستحي أن يشكو مصيبته لغير الله.(6)

إنّ يعقوب عليه السلام قرر أن يصبر صبراً جميلاً، لأنّه من أعلى درجات الصبر وهذا يحتاج العون من الله تعالى؛ ولذا قال:

- ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾: وهو في صبره الجميل يتجه إلى الله ويقول: ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ أي: لا يستعان إلّا بالله وحده في الصبر على ما يصفون من قول ولم يقل على ما وقع، بل قال على ما وصفتم، وللإحساس بأن ما وصفوا غير ما وقع.(7)

﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾: فما لم تحصل للعبد من الله إعانة على التحلي بالصبر الجميل، لم تحصل له الغلبة على مشقات الحياة وكدرها، ولهذا جمُل بمقتضى ذلك أن تختم هذه الآية بما ختمت به، وهو قوله: - ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ أي: وهو سبحانه عوني على تحمل ما تصفون من الكذب، ولا يستطيع الإنسان تحمّل مثل هذا الاختلال والتمويه إلّا بعون الله، وتجميله بالصبر الجميل.(8 )

هكذا استقبل يعقوب عليه السلام مصيبته بفراق ولده الحبيب يوسف، ومصيبته أيضاً بعقوق أولاده، واحتيالهم وكذبهم وحقدهم على أخيهم وحسده له؛ ولهذا طلب المعونة من الله تعالى ليواجه كذبهم وتزويرهم وما كان عليه السلام يستطيع أن يفعل شيئاً سوى الصبر الجميل والاستعانة بالله تعالى. استعان بالله تعالى وحده ولم يطلب معونة أولاده لأنّه يعلم أنّهم هم سبب بلائه ومصيبته، فكيف يستعين بهم؟ ولم يقم عليه السلام يبحث بنفسه عن ولده، ويتفحّص عنه، لمعرفته بشدّة حقدهم على يوسف، فقد خشي إن بالغ في الطلب والبحث عنه أن يُقدموا على إيذائه وقتله؛ ولهذا لم يجد سوى الصبر الجميل، وتفويض الأمر بالكلية لله تعالى، لا سيما إن قلنا: إنّه عليه السلام كان عالماً بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتّى يبلغ الكتاب أجله.(9) وفي قوله: - ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ غاية البلاغة، لأنّه كان متأكداً من كذبهم وواثقاً أنّهم ألحقوا بأخيهم الضر، وأنّهم ضخّموا الحدث وقلّبوا الأمور ليصدقهم عليه السلام .(10)

وتركت الآيات الكريمة يعقوب عليه السلام وقد طوى جوانحه على آلامه وأحزانه وانتقلت إلى يوسف عليه السلام في قعر الجبّ تقصّ أخباره، وتحكي أحواله.(11)

 

مراجع الحلقة التاسعة والخمسون:

1 من حديث يوسف وموسى، ص 75.

2 يوسف وقصته العجيبة، ص 105.

3 إتحاف الإلف، (1/248).

4 يوسف وقصته العجيبة، ص 106.

5 التفسير الموضوعي، (4/146).

6 تفسير النابلسي، د. محمد راتب النابلسي، (6/159).

7 زهرة التفاسير، (7/3811).

8 دعاء الأنبياء والرسل، محمد محمود، ص 131.

9 روح المعاني، (2/202).

10 إتحاف الإلف، (1/259).

11 إتحاف الإلف، (1/260).

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022