الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

تأملات في الآية الكريمة

﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾

الحلقة: 64

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

- ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾: كتعبير الرؤى ومعرفة حقائق الأمور.(1) ويأتي العطاء الثاني بعد التمكين معطوفاً بالواو: ﴿ولنعلمه﴾ والنص على التعليم لأنّه أحد صور التمكين، خصوصاً إذا ارتبط بعلم خفي يحتاجه النّاس، مثل تأويل الأحاديث، ومما يدلّ على خفاء العلم ودقته هنا كلمة: ﴿تأويل﴾ دون: (تفسير) مثلاً ذلك أنّ تعبير الرؤيا أمر يحتاج إلى علم خاص، وفيه إلهام من الله للمعبّر، وهو علم لأن الله سبحانه قال: ﴿ولنعلمه﴾، وفي دخول: (من) في قوله تعالى: ﴿من تأويل﴾ دلالة على أنّه علم عظيم واسع وما أعطيه يوسف؛ هو بعض هذا العلم. ومجيء كلمة: ﴿الأحاديث﴾ دون كلمة: (الرؤيا) قد يكون فيه إشارة إلى أنّ الرؤيا في ذلك العهد مما يهتم به النّاس ويتحدثون به ويتناقلون به. ومن الملحوظ أن هذا المعنى ذكر أولاً في السّورة بلفظ الرؤيا: ﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ [يوسف: 5]، ثمّ ذكر بلفظ الفتوى: في قوله: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الّذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ [يوسف: 41]، ثمّ ذكر في لفظ الأضغاث في قوله: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ [يوسف: 44] وهذا التنوع له دلالته بحسب الموقع الّذي ذكر فيه والقائل الّذي صدر عنه وهو ما ينبغي العناية به.(2)

إن جماهير المفسرين قد فسروا: ﴿تأويل الأحاديث﴾ في السّورة بتعبير المنام وهذا حق لا شك فيه، ولكن الكلمتين: ﴿تأويل﴾، و ﴿الأحاديث﴾، تحتملان معنى آخر، وهو استعمال العقل والبصير والفطرة السليمة لمعرفة نتائج الأفعال ومآلاتها وآثارها السلبية أو الإجابية بالتحليل العقلي: الاقتصادي والسياسي.(3) ولا مانع من الجمع بين هذين المعنيين، إذ لا تعارض في الجمع بينهما، بل إنّ كمال النعمة وتمامها يتحقق بالنبوّة والحكمة، فالنبوة هبة من الله تعالى وليست مكتسبة، أمّا الحكمة فهي مكتسبة من حيث المبدأ.

وقد أجاز علماؤنا الجمع بين المعاني المشتركة، أو بين الحقيقة والمجاز ما دام ذلك ممكنا. فالتأويل لغة: من آل يؤول أوْلاً ومآلا أي: رجع وصار. وأوّل الشيءَ إليه: أرجعه. وأرجع الكلام: فسّره وردّه إلى الغاية المرجوّة منه، وأمّا الأحاديث فهي تشمل الحوادث والوقائع والأخبار والرؤى، وبالتالي فإنّ تفسير: ﴿تأويل الاحاديث﴾ بالمعنيين صحيح، وحينئذ تكون دلالة الآية على التّحليل العقلي الحكيم واضحة. ويصحّ أن تكون جمع حديث، بمعنى الشيء الحادث، قال ابن عاشور: فتأويل الأحاديث: إرجاع ‌الحوادث ‌إلى ‌عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام. وهو المعني بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته، ويصحّ أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدّث به، فالتأويل: تعبير الرؤيا. سميت أحاديث لأن الرائين يتحدثون بها، وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين. واستدلوا بقوله في آخر القصّة:

﴿وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ [يوسف: 100]. وقال ابن عاشور: ولعلّ كلا المعنيين مراد، بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح.(4)

ومما لا شك فيه، أنَّ تمام النعمة بنعمة النبوّة ونعمة الحكمة الدنيوية، والاجتباء الأخروي مع المجد الدنيوي، وبناء على ذلك، فإنّ تأويل الأحاديث يشمل ما يسمى في عصرنا الحاضر بالتحليل السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وبذلك يتحقق الاقتداء الكامل؛ لأنّ تأويل يوسف عليه السلام للأحاديث إذا حمل على النبوّة فلا قدوة فيها، لأنها غير مكتسبة، ولكن إذا شمل التّحليل العقلي القائم على الحكمة فإن ذلك هو محلّ الاقتداء.(5)

لقد أصبح يوسف في بيت العزيز ممكناً له وتوفرت له فيه أسباب الراحة والرغد وهناءة العيش والنعيم، ثمّ كلّ أسباب التعليم، وصار قريباً من مراكز صناعة القرار في مصر وتعلّم الشيء الكثير من أحوال البلد وعقليّة الإدارة والتركيبة السياسية، والاجتماعية والإمكانات الاقتصادية واطّلع على تفاصيل المجتمع المصري، والمملكة المصرية في ذلك الوقت، مما ساعده بعد توفيق الله فيما بعد على اتخاذ القرارات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية الصحيحة الّتي ساهمت في انقاذ مصر ومن حولها من كوارث شديدة الخطورة.

 

مراجع الحلقة الرابعة والستون:

1 تفسير المنار: (12/272-273).

2 جماليات النظم القرآني، ص 16.

3 يوسف عليه السلام، علي القره داغي، ص 32.

4 التحرير والتنوير، (5/641). يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 32.

5 يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 33.

 

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/668


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022