وفاة الرسول الكريم وموقف الصِّدِّيق من الفاجِعة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
أولاً: وفاة الرسول (ﷺ):
إنَّ الأرواح الشَّفَّافة الصَّافية لتدرك بعض ما يكون مخبوء وراء حجب الغيب بقدرة الله تعالى، والقلوب الطَّاهرة المطمئنة لتحدِّث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزَّمان، والعقول الذَّكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ما وراء الألفاظ والأحداث من إشاراتٍ، وتلميحاتٍ، ولنبيِّنا محمد (ﷺ) من هذه الصفات الحظُّ الأوفر، وهو منها بالمحلِّ الأرفع؛ الذي لا يُسامى ولا يطاول.
ولقد جاءت بعضُ الآيات القرآنية مؤكِّدةً على حقيقة بشريَّة النبيِّ (ﷺ)، وأنَّه كغيره من البشر، سوف يذوق الموت، ويعاني سكراته، كما ذأفه من قبل إخوانه من الأنبياء، ولقد فهم (ﷺ) من بعض الآيات اقتراب أجله، وقد أشار (ﷺ) في طائفةٍ من الأحاديث الصَّحيحة إلى اقتراب وفاته، منها ما هو صريح الدَّلالة على الوفاة، ومنها ما ليس كذلك، حيث لم يشعر ذلك منها إلا الآحاد من كبار الصَّحابة الأجِلاَّء، كأبي بكرٍ، والعبّاس، ومعاذٍ رضي الله عنهم.
مرض رسول الله (ﷺ) وبدء الشَّكوى:
رجع رسول الله (ﷺ) من حَجَّة الوداع في ذي الحجَّة، فأقام بالمدينة بقيته من العام العاشر، والمحرم، وصفراً، من العام الحادي عشر، فبدأ بتجهيز جيش أسامة، وأمَّرَ عليهم أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يتوجَّه نحو البلقاء، وفلسطين، فتجهَّز الناس وفيهم المهاجرون، والأنصار، وكان أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة، وتكلَّم البعض في تأخيره، وهو مولى، وصغير السِّنِّ على كبار المهاجرين والأنصار، لم يقبل الرسول (ﷺ) طعنهم في إمارة أسامة، فقال النبي (ﷺ): « إن يطعنوا في إمارته، فقد طعنوا في إمارة أبيه، وايم الله، إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحبِّ الناس إليَّ، وأنَّ ابنه هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده ».
وبينما الناس يستعدُّون للجهاد في جيش أسامة ابتدأ رسول الله (ﷺ) شكواه الذي قُبض فيه. وقد حدثت حوادث ما بين مرضه ووفاته منها: زيارته قتلى أحدٍ، وصلاته عليهم، واستئذانه أن يمرَّض في بيت عائشة، وشدَّة المرض الذي نزل به، وأوصى (ﷺ) بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد، ونهى عن اتخاذ قبره مسجداً، وأوصى بإحسان الظنِّ بالله، وأوصى بالصلاة، وما ملكت أيمانكم، وبيَّن بأنه لم يبقَ من مبشِّرات النبوَّة إلا الرُّؤيا، وأوصى بالأنصار خيراً، وخطب (ﷺ) في أيام مرضه فقال: « إن الله خيَّرَ عبداً بين الدُّنيا وبين ما عند الله، فاختار ذلك العبد ما عند الله »، فبكى أبو بكر، فقال أبو سعيد الخدريُّ ـ رضي الله عنه ـ: فعجبنا لبكائه أن يخبر الرَّسول (ﷺ) عن عبدٍ خُيِّر، فكان رسول الله (ﷺ) هو المُخَيَّر، وكان أبو بكرٍ أعلمنا، فقال رسول الله (ص): « إنَّ أَمَنَّ الناس عليَّ في صحبته، وماله أبو بكرٍ، ولو كنتُ متَّخذاً خليلاً غيرَ ربِّي لاتخذت أبا بكرٍ، ولكن أخوَّةُ الإسلام، ومودَّته، لا يبقينَّ في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب أبي بكرٍ ».
قال الحافظ ابن حجر: وكأنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فهم الرَّمز الذي أشار به النبيُّ (ﷺ) من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه: أنَّه أراد نفسه، فلذلك بكى، ولما اشتدَّ المرض بالنبيِّ (ص)، وحضرته الصلاة، فأذَّن بلالٌ؛ قال النبيُّ: « مروا أبا بكرٍ فَلْيُصَلِّ » فقيل: إنَّ أبا بكرٍ رجلٌ أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلِّي بالناس . وأعاد، فأعادوا له، فأعاد الثالثة، فقال: « إنَّكنَّ صواحبُ يوسف، مروا أبا بكرٍ فليصلِّ » . فخرج أبو بكرٍ، فوجد النبيُّ (ﷺ) في نفسه خفَّة، فخرج يهادى بين رجلين، كأني أنظر إلى رجليه تخطَّان من الوجع، فأراد أبو بكرٍ أن يتأخَّر فأومأ إليه النبيُّ (ﷺ) أن مكانك، ثُمَّ أتي به حتى جلس إلى جنبه، قيل للأعمش: فكان النبيُّ (ﷺ) يصلِّي وأبو بكرٍ يصلِّي بصلاته، والنَّاس يصلُّون بصلاة أبي بكر! فقال برأسه: نعم.
واستمرَّ أبو بكرٍ يصلِّي بالمسلمين، حتى إذا كان يوم الإثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبيُّ (ﷺ) ستر الحجرة، ينظر إلى المسلمين، وهم وقوف أمام ربِّهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته، وجهاده، وكيف نشأت أمَّةٌ تحافظ على الصَّلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيِّها وغيبته، وقد قرَّت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النَّجاح الذي لم يقدر لنبيٍّ، أو داعٍ قبله، واطمأنَّ أن صلة هذه الأمَّة بهذا الدين، وعبادة الله تعالى، صلةٌ دائمةٌ، لا تقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير، يقول الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ: كشف النبيُّ (ﷺ) ستر حجرة عائشة ينظر إلينا، وهو قائم، كأنَّ وجهه ورقة مصحف، ثمَّ تبسَّم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننَّا: أنَّ النبي (ﷺ) خارجٌ إلى الصلاة، فأشار إلينا أن أتمُّوا صلاتكم، ودخل الحجرة، وأرخى السِّتر، وانصرف بعض الصَّحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة، وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة ـ إحدى زوجتيه ـ وكانت تسكن بالسُّنْح، فركب على فرسه، وذهب إلى منزله.
واشتدَّت سكرات الموت بالنبيِّ (ﷺ)، ودخل عليه أسامة بن زيد، وقد صمت، فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ثم يضعها على أسامة، فعرف أنَّه يدعو له، وأخذت السيدة عائشة رسول الله، وأسودته إلى صدرها بين سحرها، ونحرها، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله ينظر إليه، فقالت عائشة: اخذه لك ؟ فأشار برأسه نعم، فأخذته من أخيها، ثمَّ مضغته، وليَّنته، وناولته إيّاه، فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك، وكلُّ ذلك وهو لا ينفكُّ عن قوله: « في الرَّفيق الأعلى »، وكان (ﷺ) بجانبه ركوة ماءٍ، أو علبةٌ فيها ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: « لا إله إلا الله . . إنَّ للموت سكرات »، ثمَّ نصب يده، فجعل يقول: « في الرَّفيق الأعلى »، حتّى قبض، ومالت يده، وفي لفظٍ: أنَّ النبيَّ (ﷺ) كان يقول: « الّلهم أعنِّي على سكرات الموت! ».
وفي رواية: أنَّ عائشة سمعت النبيَّ (ﷺ) وأصغت إليه قبل أن يموت، وهو مسندٌ الظَّهر يقول: « اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى ».
وقد ورد أنَّ فاطمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: واكرب أباه! فقال لها: «ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم»، فلمّا مات قالت: يا أبتاه! أجاب ربّاً دعاه، يا أبتاه!، جنَّة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل ننعها، فلمّا دفن (ﷺ) قالت لأنس: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التُّراب.
فارق رسول الله الدُّنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدُّنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم، وأولادهم، وأموالهم، وما ترك عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمَةً، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقةًوتوفِّيَ (ﷺ) ودرعُه مرهونةٌ عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير، وكان ذلك يوم الإثنين في الثَّاني عشر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة بعد الزَّوال، وله ثلاثٌ وستُّون سنة، وكان أشدَّ الأيّام سواداً، ووحشةً، ومصاباً على المسلمين، ومحنةً كبرى للبشريَّة، كما كان يوم ولادته أسعد
يومٍ طلعت فيه الشمس، يقول أنس رضي الله عنه: كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله (ﷺ) المدينة أضاء منها كُلُّ شيء، فلمّا كان الذي مات فيه، أظلم منها كُلُّ شيء، وبكت أمُّ أيمن، فقيل لها: ما يبكيك على النبيِّ ؟ قالت: إنِّي قد علمت أن رسول الله (ﷺ) سيموت، ولكن إنَّما أبكي على الوحي الذي رفع عنّا.
ثانياً: هول الفاجعة وموقف أبي بكرٍ منها:
قال ابن رجب: ولمّا توفي رسول الله (ﷺ) اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أقعد، فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتُقل لسانه، فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكليَّة.
قال القرطبيُّ مبيِّناً عِظَم هذه المصيبة، وما ترتب عليها من أمور: من أعظم المصائب المصيبة في الدِّين . . قال رسول الله (ﷺ): « إذا أصاب أحدكم مصيبةٌ، فليذكر مصابه بي فإنَّها أعظم المصائب »، وصدق رسول الله (ﷺ)، لأنَّ المصيبة به أعظم من كُلِّ مصيبةٍ يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة، انقطع الوحي، وماتت النُّبوَّة، وكان أول ظهور الشرِّ بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أوَّل انقطاع الخير وأول نقصانه.
وقال ابن إسحاق: ولمّا توفي رسول الله (ﷺ) عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة فيما بلغني تقول: لمّا توفي النبيُّ (ﷺ) ارتدَّت العرب، واشرأبَّتاليهوديَّة، والنَّصرانية، ونجم النِّفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشَّاتية لفقد نبيِّهم.
وقال القاضي أبو بكر بن العربيِّ: واضطربت الحال.. فكان موت النبيِّ (ﷺ) قاصمة الظَّهر، ومصيبة العمر، فأمّا عليٌّ، فاستخفى في بيت فاطمة، وأمّا عثمان، فسكت، وأمّا عمر، فأهجر، وقال: ما مات رسول الله وإنَّما واعده ربُّه كما واعد موسى، وليرجعنَّ
رسول الله، فليقطعن أيدي رجالٍ، وأرجلهم، ولما سمع أبو بكرٍ الخبر؛ أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح؛ حتّى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلِّم النّاس، حتى دخل على عائشة، فتيمَّم رسول الله (ﷺ) وهو مُغشَّى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثمَّ أكبَّ عليه، فقبَّله، وبكى، ثمَّ قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها. وخرج أبو بكر وعمر يتكلَّم، فقال: اجلس يا عمر! وهو ماضٍ في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكرٍ في الناس خطيباً بعد أن حمد الله، وأثنى عليه:
أمّا بعد: فإنَّ من كان يعبد محمَّداً فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثمَّ تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ *} [آل عمران: 144] فنشج الناس يبكون.
قال عمر: فوالله ما إن سمعت أبا بكرٍ تلاها، فهويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وعلمتُ: أنَّ رسولَ الله قد مات. قال القرطبيُّ: هذه الآية أدلُّ دليل على شجاعة الصِّدِّيق، وجراءته، فإنَّ الشجاعة، والجرأة حدُّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبيِّ (ﷺ)، فظهرت شجاعته، وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله (ﷺ) منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى عليٌّ، واضطرب الأمر، فكشفه الصِّدِّيق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنح.
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصِّدِّيق بالقران الكريم خرج الناس من ذهولهم، وحيرتهم، ورجعوا إلى الفهم الصَّحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحيُّ وحده؛ الذي لا يموت، وأنَّه وحده الذي يستحقُّ العبادة، وأنَّ الإسلام باقٍ بعد موت محمَّدٍ (ﷺ) ، كما جاء في روايةٍ من قول الصدِّيق: إنَّ دين الله قائمٌ، وإنَّ كلمة الله تامَّةٌ، وإنَّ الله ناصر مَنْ نصره، ومعزُّ دينه، وإنَّ كتاب الله بين أظهرنا، وهو النُّور، والشِّفاء، به هدى الله محمَّداً (ﷺ) وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله! إنَّ سيوف الله لمسلولةٌ ما وضعناها بعد، ولنجاهد مَنْ خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله، فلا يبغينَّ أحدٌ إلا على نفسه.
كان موت محمَّدٍ (ﷺ) مصيبةً عظيمةً، وابتلاءً شديداً، ومن خلالها، وبعدها ظهرت شخصيَّة الصدِّيق كقائدٍ للأُمَّة فذٍّ، لا نظير له، ولا مثيل، فقد أشرق اليقين في قلبه، وتجلَّى ذلك في رسوخ الحقائق فيه، فعرف حقيقة العبودية، والنُّبوَّة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته ـ رضي الله عنه ـ فانحاز بالناس إلى التَّوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت) وما زال التَّوحيد في قلوبهم غضّاً طريّاً، فما أن سمعوا تذكير الصِّدِّيق لهم؛ حتى رجعوا إلى الحق. تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: فوالله لكأنَّ الناس لم يكونوا يعلمون: أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ فتلقّاها منه الناسُ، فما يُسمع بشرٌ إلا يتلوها.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
📘السيرة النبوية (جزئين)
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/627
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/628