إنَّ سنَّة الابتلاءِ ماضيةٌ في الأفراد، والجماعات، والشُّعوب، والأمم، والدُّول، وقد مضت هذه السُّنَّة في الصَّحابة الكرام، وتحمَّلوا ـ رضوان الله عليهم ـ من البلاء ما تنو به الرَّواسي الشَّامخات، وبذلوا أموالهم، ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وحُثي على رأسه التُّراب، وضرب في المسجد الحرام بالنِّعال، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وحُمِل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت،( يوسف، 1997، ص 243) فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّه لمّا اجتمع أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانيةً وثلاثين رجلاً؛ ألحَّ أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظُّهور، فقال: يا أبا بكر! إنّا قليلٌ. فلم يزل أبو بكرٍ يلحُّ حتى ظهر رسول الله، وتفرَّق المسلمون في نواحي المسجد كلُّ رجلٍ في عشيرته، وقام أبو بكرٍ في النَّاس خطيباً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فكان أوَّل خطيب دعا إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
وثار المشركون على أبي بكرٍ وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبو بكر، وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ حتى ما يُعْرَف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكرٍ، وحَمَلت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتّى أدخلوه منزله، ولا يشكُّون في موته، ثمَّ رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد، وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتل عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكرٍ، فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلِّمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلَّم اخر النَّهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمَسُّوا منه بألسنتهم، وعذلوه، وقالوا لأمِّه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً، أو تسقيه إيّاه، فلمّا خلت به؛ ألحَّت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك! فقال: اذهبي إلى أمِّ جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت؛ حتى جاءت أمَّ جميل، فقالت: إنَّ أبا بكرٍ سألك عن محمَّد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكرٍ، ولا محمَّد بن عبد الله، وإن كنت تحبِّين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أمُّ جميل، وأعلنت بالصِّياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر! إنَّني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمُّك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالمٌ صالحٌ، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإنَّ لله عليَّ ألاّ أذوق طعاماً، ولا أشرب شراباً، أو اتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمهلتا حتّى إذا هدأت الرِّجْلُ، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فأكبَّ عليه رسولُ الله فقبَّله، وأكبَّ عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّةً شديدةً، فقال أبو بكر: بأبي، وأمِّي يراسل الله! ليس بي بأسٌ إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أُمِّي بَرَّةٌ بولدها، وأنت مُباركٌ، فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنفذها بك من النار . قال: فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاها إلى الله، فأسلمت.(ابن كثير، 1988،ج3/30)
إنَّ هذا الحدث العظيم في طيّاته دروس، وعبرٌ لكلِّ مسلمٍ حريصٍ على الاقتداء بهؤلاء الصَّحب الكرام، ونحاول أن نستخرج بعض هذه الدُّروس التي منها:
1- حرص الصِّدِّيق على إعلان الإسلام، وإظهاره أمام الكفّار، وهذا يدلُّ على قوَّة إيمانه، وشجاعته، وقد تحمَّل الأذى العظيم، حتى إنَّ قومه كانوا لا يشكُّون في موته، لقد أُشرب قلبُه حبَّ الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمُّه ـ بعد إسلامه ـ إلا أن تعلو راية التَّوحيد، ويرتفع النِّداء: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله في أرجاء مكَّة؛ حتى لو كان الثَّمن حياته، وكاد أبو بكرٍ فعلاً أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته، وإسلامه.
2ـ إصرار أبي بكرٍ على الظُّهور بدعوة الإسلام وسط الطُّغيان الجاهليِّ؛ رغبةً في إعلام الناس بذلك الدِّين الذي خالطت بشاشته القلوب، رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرَّض له،
وصحبه، وما كان ذلك إلا لأنَّه قد خرج من حظِّ نفسه.
3ـ حبُّ الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكرٍ على حبِّه لنفسه، بدليل: أنَّه رغم ما ألم به كان أوَّل ما سأل عنه: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قبل أن يطعم، أو يشرب، وأقسم: أنَّه لن يفعل حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا يجب أن يكون حبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند كُلِّ مسلمٍ أحبَّ إليه ممّا سواهما؛ حتى لو كلَّفه ذلك نفسَه، وماله.(عبد الهادي، 1986، ص132)
4ـ إنَّ العصبيَّة القبليَّة كان لها في ذلك الحين دورٌ في توجيه الأحداث، والتعامل مع الأفراد؛ حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكرٍ تهدِّد بقتل عتبة؛ إن مات أبو بكرٍ.(السويكت، 1992، ص79)
5ـ تظهر مواقف رائعةٌ لأمِّ جميل بنت الخطَّاب، توضح لنا كيف تربَّت على حُبِّ الدَّعوةِ، والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدِّين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت: ما أعرف أبا بكرٍ، ولا محمَّد بن عبد الله، فهذا تصرُّفٌ حذرٌ سليمٌ، لأنَّ أُمَّ الخير لم تكن ساعتئذٍ مسلمةً، وأُمُّ جميلٍ كانت تخفي إسلامها، ولا تودُّ أن تعلم به أُمُّ الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن تكون عيناً لقريشٍ،(محمد، 1996، ص 50) وفي نفس الوقت حرصت أُمُّ جميل أن تطمئنَّ على سلامة الصِّدِّيق، ولذلك عرضتْ على أُمِّ الخير أن تصحبها إلى ابنها، وعندما وصلت إلى الصِّدِّيق كانت أم جميل في غاية الحيطة، والحذر من أن تتسرَّب منها أيُّ معلومة عن مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبلغت الصِّدِّيق بأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سالمٌ صالحٌ، ويتجلَّى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن النَّاس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما هدأت الرِّجْلُ، وسكن النّاس.(عبد الهادي، 1986، ص132)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الإنشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، 1424ه-2003م صص36-39
ابن كثير، البداية والنِّهاية، دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ 1988م.
محمَّد السَّيِّد محمَّد يوسف، التمكين للأمَّة الإِسلاميَّة في ضوء القران الكريم، دار السَّلام، مصر، الطَّبعة الأولى 1418هـ 1997م.
سليمان السُّويكت، محنة المسلمين في العهد المكيِّ، مكتبة التَّوبة، الرِّياض، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م.
جمال عبد الهادي محمَّد مسعود، أخطاء يجب أن تُصحح في التَّاريخ، استخلاف أبي بكر الصِّدِّيق، دار الوفاء، المنصورة، 1406هـ 1986م.
إبراهيم علي محمَّد، في السِّيرة النَّبويَّة جوانب الحذر والحماية، وزارة الأوقاف، الدوحة، 1417 ه1996م