الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تأملات في الآية الكريمة

﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾

من كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام للدكتور علي محمد الصلابي

الحلقة: 74

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

 

بيَّن الله تعالى الحكمة من جعل يوسف يرى برهان ربّه وسياق الكلام بما فيه من التشبيه في الحالة في قوله: (كذلك) يدلّ على أنّ ما قبلها قد صرف عنه السوء فيه بإيجاد البرهان فيكون المعنى مثلما حفظناه من الهم بالسوء، كذلك نصرف عنه السوء، فالمصروف هو السوء والفحشاء، وهذا يعني أنّه عليه السلام لم يتوجّه إلى السوء ليصرَف عنه وإلا قيل: كذلك لنصرفه عن السوء.

وإذا كانت مادّة الصرف تدلّ على رجع الشيء، فإنّ ذلك يدلّ على وجود مصدر للسّوء هنا، وهو المرأة، ولكن الله ردّ كيدها عليها ولم تؤثر في يوسف عليه السلام بمكرها.(1)

- ﴿السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾: والسوء: الضر، من ساءه سَوءاً، مصدر بفتح السين. وأما السُوء بضم السين فاسم للمصدر. الفحشاء: اسم مشتق من فحش إذا تجاوز الحدّ المعروف في فعله أو قوله واختصّ في كلام العرب بما تجاوز حدّ الآداب وعظم إنكاره؛ لأنّ وساوس النفس تؤول إلى مضرّة كشرب الخمر والقتل المقتضي للثأر، أو سوأة أو عار كالزنا والكذب، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات، لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة، وأما تصادفهما معاً في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادفة.(2)

وقال المعلمي – رحمه الله -: والسوء: كلّ ما يغم الإنسان من الأمور الدنيوية ومن الأحوال النفسيّة والبدنيّة والخارجيّة، من فوات مال، وفقد حميم، وفعل قبيح، وهو في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [النحل: 27] بمعنى الغم، وفي قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النّساء: 123]، بمعنى القبيح. فالسوء كلّ عمل قبيح يسوء فاعله إذا كان عاقلاً سليم الفطرة كريم النفس، أو يسوء النّاس. والفحشاء: هي الفحش والفاحشة ألفظ ثلاثة معناها واحد، وهو كلّ ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، فإذا تقرر هذا فحاصل المعنى لنصرف عنه ما يهمه ويحزنه، وكل أمر قبيح وكل ما يتجاوز الحد في القبح. ولنصرف عنه الصغيرة والكبيرة، أو لنصرف عنه الكبيرة والكبرى، من المعاصي، أو لعله أراد لنصرف عنه ما يسوءه وهو خيانته لسيده. والفحشاء، وهو: قتله لسيدته. أو السوء ما لا حدّ فيه، وهو قتله لسيدته دفاعاً عن عرضه، والفحشاء ما فيه حد وهو الزنى، أو نصرف عنه السوء، وهو: مقدمات الفاحشة من التقبيل، والضم، ونحو ذلك. والفحشاء، وهي: الزنى أو القتل، أو السوء، وهو: الزنى، والفحشاء هي القتل، وهذا الأخير هو الأقرب عندنا بدليل قوله تعالى: ﴿قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ [يوسف: 25] أي: زنى. ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ [يوسف: 51] أي: الزنى، فكلمة سوء في هذه الآيات الثلاثة في هذه السورة مستعمله في الزنى، فليكن لفظ: (السوء) في قوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ﴾ [يوسف: 24] مراداً منه الزنى، وإذا ثبت هذا فالفحشاء هي القتل الّذي كان حاوله يوسف، ثمّ رأى غيره أحسن منه وهو الفرار، ومع كلّ هذا فنحن لا نمنع أن يسمى كلا فعلي الزنى والقتل سوءاً أو فاحشة.(3)

- ﴿إنّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾: اختلف القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة؛ قرأته المدينة والكوفة (إنّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) بفتح اللام من"المخلصين"، وذلك بتأويل: ‌إن ‌يوسف ‌من ‌عبادنا ‌الذين أخلصناهم لأنفسنا، واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا وقرأ بعض قرأته مدينة البصرة: "إنّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ" بكسر اللام = بمعنى: إن يوسف من عبادنا الّذين أخلَصوا توحيدنا وعبادتنا، فلم يشركوا بنا شيئًا، ولم يعبدُوا شيئًا غيرنا وهما متفقتا المعنى. وذلك أن من ‌أخلصه ‌الله ‌لنفسه فاختاره، فهو مُخْلِصٌ لله التوحيدَ والعبادة، ومن أخلص توحيدَ الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئًا، فهو ممن أخلصه الله. (4)

وإن الجامع لذلك كلّه أن الله صرف عنه والفحشاء؛ لأنّه من عباده المخلصين له في عبادتهم الّذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه وأسدى عليهم من النعم وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.(5)

وهذا التعليل في قوله: ﴿إنّه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾، فيه ترغيب في الإخلاص وحثّ عليه ودعوة للإنصاف به وإغراء للدّخول في ركب المخلصين لينجو بإذن الله من السوء والفحشاء ويصرف عن الحرام، ويخلص من الفتنة. ولهذا كان من السّبعة الّذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلّا ظله: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.(6) فالذي منعه من الانسياق وراء هذا الإغراء والمراودة خوف الله تعالى الناشئ عن الإخلاص لله تعالى، فخلصه الله من هذه الفتنة والتي هي أضر فتنة على الرجال.(7)

وقال السعدي: ‌إنّ ‌من ‌دخل ‌الإيمان قلبه، وكان مخلصاً لله في جميع أموره فإن الله يدفع عنه ببرهان إيمانه، وصدق إخلاصه من أنواع السوء والفحشاء وأسباب المعاصي ما هو جزاء لإيمانه وإخلاصه لقوله: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ ،(😎 فما أعظم الإخلاص في الخلاص من الفتن.(9)

مراجع الحلقة الرابعة والسبعون:

جماليات النظم القرآني، ص 37.

2 جماليات النظم القرآني، ص 27.

3 مؤتمر تفسير سورة يوسف، (1/515- 517).

4 جامع البيان، (16/50)

5 الإخلاص في القرآن الكريم، محمد بن محمد الوهيبي، ص 310.

6 الإخلاص في القرآن الكريم، ص 311.

7 المصدر نفسه، ص 311.

8 المصدر نفسه، ص 311.

9 المصدر السابق نفسه، 311.

يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022