تأملات في الآية الكريمة ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾
من كتاب النبي الوزير يوسف الصديق (عليه السلام ) للدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة:73
بقلم: د. علي محمد الصلابي
والحكمة من ذكر الآية، أنّ الله تعالى يبيّن أنّ عدم همّه بالفاحشة لا يعود إلى إنّه غير قادر، أو غير راغب بطبعه، وإنّما الّذي منعه هو براهين الله في القلب من الإيمان بالله واليوم الآخر، ومن عصمة النبوّة، وحبّه لرضاه ومحبته، وعدم إغضابه بمعصية يمنع من أيّ لذّه محرمة مهما كانت مرغوباً فيها.
ومن الجانب اللغوي فإنّ كلمة: (همّ) أقوى من نوى وقصد وعزم في لغة العرب، لأنها تعني العزم على الشيء مع البدء بمقدماته، وهكذا استعملت في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: ﴿وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا﴾ [التوبة: 74]، حيث نوى المشركون وأرادوا قتله وحبسه مع البدء بالتنفيذ ولذلك لا يجوز إثبات الهمّ ليوسف. يقول السيد محمّد رشيد رضا: إنّ الهم لا يكون إلّا بفعل الهام، وهذا لا يتناسب مع نبي كريم للأسباب الّتي ذكرناها هنا، ولا يصحّ بلاغياًّ أن نحمل همّ المرأة ليوسف على معناه الحقيقي، وهم يوسف على معنى آخر، حيث لا يستقيم مع الإعجاز البياني.
قال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة أن تقول هممت بفلان وهمّ بي، وأنت تريد اختلاف المعنيين. ثمّ قال: وهذا مذهب الأكثر من السلف، والعلماء الأكابر، ولذلك فالصواب هو أن: ﴿وهمّ بها﴾ جواب لــــ (لولا) حيث يدلّ بوضوح على امتناع الهم وعدم تحققه أصلاً لتحقيق رؤية البرهان وقد جاءت الصيغة فعلاً ماضياً: ﴿رأى برهان ربه﴾، للدّلالة على وجوده وتحققه، وحينئذ تكون الحكمة في هذه الصياغة القرآنيّة هي الإشارة إلى أنّ هذا الامتناع لم يكن بسبب عجز يوسف وعدم وجود الشهوة فيه، وإنّما لأجل وجود هذا البرهان، وهو برهان الخوف من الله تعالى، برهان النبوّة، برهان الحكمة، برهان الوفاء: ﴿إنّه ربي أحسن مثواي﴾ برهان معرفته تأويل الأحاديث، وفقه المآلات: ﴿إنّه لا يفلح الظالمون﴾. (1)
قال العلامة أبو السّعود – رحمه الله – في تفسير قوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾؛ أي حجّته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنى، وسوء سبيله، والمراد برؤيته لها كما إيقانه بها ومشاهدته لها واصلة إلى مرتبة عين اليقين.(2) ونقله الألوسي في روح المعاني وأقرّه.(3)
وقال البقاعي: ﴿لولا أنْ رأى﴾ أي بعين قلبه ﴿برهان ربه﴾ الّذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي لهمّ بها، لكنّه لما كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين، لم يؤثر به وفور شهوة ولا غلبة هوى.(4)
وقال السعدي – رحمه الله -: والحاصل أنّه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله، ومراعاة حقّ سيده الّذي أكرمه، وصيانة نفسه عن الظلم الّذي لا يفلح من تعاطاه، وكذلك ما منّ الله عليه من برهان الإيمان الّذي في قلبه، يقتضي منه امتثال الأوامر، واجتناب الزواجر، والجامع لذلك كلّه أنّ الله صرف عنه السوء والفحشاء، لأنّه من عباده المخلصين له في عباداتهم، الّذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه.(5)
وقال ابن تيمة - رحمه الله -: في قوله تعالى: ﴿كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين﴾، فأخبر إنّه صرف عنه السوء والفحشاء وهذا يدل على أنّه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء. وأما قوله: ﴿ولقد همّتْ بهِ وهمَّ بها لولا أنْ رأى برهان ربّه﴾، فالهم اسم جنس تحته "نوعان" كما قال الإمام أحمد: الهمّ همّان: همّ خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ ﷺ "أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة". ويوسف عليه السلام همّ همّاً تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنّما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله.
فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلّا حسنة يثاب عليها؟ وقال تعالى: ﴿إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهُم طائفٌ من الشيطانِ تذكّرُوا فإذا هم مُبصرون﴾. وأمّا ما ينقل: من أنّه حلّ سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنّه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده، وأمثال ذلك فكلّه مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك فإنّما هو مأخوذ عن اليهود الّذين هم من أعظم النّاس كذباً على الأنبياء وقدحاً فيهم وكلّ من نقله من المسلمين فعنهم نقله؛ لم ينقل من ذلك أحد عن ﷺ حرفاً واحداً.(6)
مراجع الحلقة الثالثة والسبعون:
يوسف عليه السلام، القره داغي، ص 70.
2 تفسير أبي السّعود، (2//266).
3 روح المعاني، (12/213).
4 نظم الدرر، (12/163)
5 تفسير السعدي، ص 504.
6 مجموع الفتاوى، (10/296، 297).
يمكنكم تحميل كتاب النبي الوزير يوسف الصديق عليه السلام
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي