الأربعاء

1446-12-08

|

2025-6-4

الانحراف في تصور مفهوم العبادة سببٌ في تأخر التمكين ..

مختارات من كتاب (فقه النصر والتمكين)

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

الحلقة: الثالثة والثلاثون

إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم في تصور مفهوم معنى العبادة.. وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة, والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة, لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم, وكيف هبطت من مقام الريادة, والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسةَ الذئابُ (1).

إن من شروط التمكين أن يكون مفهوم العبادة في حس الجيل, إن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله, ما نفهم من قول الله سبحانه: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56].

لقد كان الجيل الأول لهذه الأمة يفهم الحياة كلها على أنها عبادة تشمل الصلاة والنسك, وتشمل العمل كله, وتشمل لحظة الترويح كذلك, فلا شيء في حياة الإنسان كلها خارج من دائرة العبادة, وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة, كلها عبادة وإن اختلفت أنواعها ومجالاتها (2).

وبهذا الفهم العميق لمفهوم العبادة حققت تلك الأمة في سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه, فحين كانت تمارس الأمة إيمانها الحق, وعبادتها الحقة, وكانت الأخلاق في حسها جزءًا من العبادة المفروضة على المسلم, حدثت إنجازات هائلة لم تتكرر في التاريخ, ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح الإسلامي من الهند شرقًا إلى المحيط غربًا, وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله, ولم يكن الكسب هو الأرض

التي فتحت, وإنما كان الكسب الأعظم هو القلوب التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله أفواجًا (3).

وما كانت تلك الأمة لتقدر على دك حصون الشرك, واقتلاعها بمثل هذه السهولة, وبمثل هذه السرعة, وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع, من إقامة العدل الرباني في الأرض, ونظافة التعامل, والوفاء بالمواثيق, وشجاعة النفس, والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم سواء, وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة, ولا حركتها الحضارية السامقة.. ما كانت لتقدر على ذلك كله, ولا على شيء منه, لولا هذا الإحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق الله الإنسان من أجلها وتقوم به بذات الحس الذي تؤدي به الصلاة (6).

هكذا كانت العبادة تصورًا وفهمًا وعملاً عند الأجيال المسلمة الأولى (7), ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ تصحيح المفاهيم أولاً, ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للإسلام (8).

إن قضية العبادة ليست قضية شعائر, وإنما هي قضية دينونة واتباع, وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات, وكل هذا الاهتمام (9).

وحتى تستحق الأمة الإسلامية اليوم وعد الله بالتمكين فإن عليها أن تصيغ حياتها كلها صياغة جديدة على منهج الله رب العالمين, لتصبح كلها عبادة من لحظة التكليف إلى لحظة الموت, لا تندّ عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي, ولا لمحة, ولا خاطر, ولا لون من ألوان النشاط (10), امتثالاً وتحقيقًا لقول الله تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام:162].

إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها, وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط التمكين ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.

----------------------------------------

مراجع الحلقة الثالثة والثلاثون:

(1) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب, ص 173.

(2) المصدر السابق نفسه, ص 203-204.

(3) المصدر السابق نفسه, ص 222.

(4) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص192.

(5) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.

(6) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص 250-251.

(7) انظر: في ظلال القرآن (4/1943).

(8) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.

يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/655


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022