الإثنين

1446-11-14

|

2025-5-12

في سيرة صلاح الدين الأيوبي
أول صلاة جمعة في بيت المقدس:
الحلقة: السادسة و الثمانون    
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ أغسطس 2020


لمَّا نُزِّهَ البيت المقدس ممَّا كان فيه من الصُّلبان ، والنواقيس ، والرُّهبان ، والخنازير ، والقساوسة، ودخله أهل الإيمان ، ونودي بالأذان ، وهرب الشَّيطان ، وقرِىءَ القران ، وطهر المكان ، فكان إقامة أوَّل جمعةِ في يوم الرَّابع من شعبان ، بعدَ يوم الفتح بِثَمانٍ ، فنصب المنبرُ إلى جانب المحراب المطهَّر ، وبسطت البُسُط الرفيعة في تلك العراص الوسيعة ، وعلِّقت القناديل، وتُلِيَ التنزيل عِوضاً عمَّا كان يقرأ من التَّحريف في الإنجيل ، وجاء الحقُّ ، وبطلت تلك الأباطيل ، وصُفَّت السَّجادات ، وكثُرت السَّجدات ، وتنوعت العبادات ، وأُديمت الدَّعوات ، ونزلت البركات ، وانجلت الكُرُبات ، وأقيمت الصَّلوات ، ونطق الأذان ، وخرس الناقوس ، وحضر المؤذِّنون ، وغاب القسوس ، وطابت الأنفاس ، وأطمأنت النُّفوس ، وأقبلت السُّعود ، وأدبرت النُّحوس ، وحضر العبَّاد ، والزهَّاد... وعُبِد الواحد ، وكثر الرَّاكع ، والساجد ، والقائم القاعد ، وامتلأ الجامع وسالت لرقَّة القلوب المدامع: هذا يومٌ كريم ، وفضلٌ عظيم ، وموسمٌ وسيم ، وهذا يومٌ تجاب فيه الدَّعوات ، وتُصبُّ البركات ، وتسيل العبرات ، وتقال العثرات ، فأذَّن المؤذنون للصلاة وقت الزوال ، وكادت القلوب تطير من الفرح بتلك الحال.
ولم يكن السُّلطان إلى تلك الساعة عَيَّن خطيباً ، وقد تهيأ لها خلقٌ من العلماء خوفاً أن يُدعى إليها أحدُهم ، فلا يكون نجيباً ، فبرز للخطباء المرسوم السُّلطاني الصَّلاحيُّ وهو في قبة الصخرة الغرَّاء ، أن يكون القاضي محي الدين بن الزكي اليوم خطيباً ، فلبس الخلعة السَّوداء ، وصعِد المنبر؛ وقد كساه الله البهاء ، وأكرمه بكلمة التَّقوى ، وأعطاه السَّكينة ، والوَقار ، والسناءَ ، فخطب بالناس خطبةً عظيمةً ، سنيةً ، فصيحةً ، بليغةً ، ذكر فيها شرف البيت المقدَّس ، وما ورد فيه من الفضائل ، والترغيبات ، وما فيه من الدَّلائل ، والإمارات ، وما منَّ الله به على الحاضرين من هذه النِّعمة التي تَعْدِلُ الكثير من القُربات. وقد أوردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في «الرَّوضتين» بطُولها ، فكان أوَّل ما قالَ حين تكلَّم: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٥﴾[الأنعام: 45 ] ثم أورد تحميدات القران كلَّها ، ثم قال:
1 ـ قدرة الله على تحقيق النصر: الحمد لله مُذلَّ الشرك بقهره ، ومصرِّف الأمور بأمره ، ومِديم النِّعَم بشكره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدَّر الأيام دولاً بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاء على عباده من ظلِّه، وأظهر دينه على الدِّين كلِّه ، القاهر فوق عباده ، فلا يمانع ، والظاهر على خليقته ، فلا ينازع ، والامر بما يشاء، فلا يراجع ، والحاكم بما يريد ، فلا يدافع ، أحمده على إظفاره ، وإظهاره ، وإعزازه لأوليائه ، ونصره لأنصاره ، وتطهيره بيته المقدَّس من أدناس الشِّرك وأوضاره حَمْدَ مَن استشعر الحمد باطنَ سرِّه، وظاهر جهاره.
2 ـ الثناء على الرسول الكريم وعلى صحابته: وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد؛ الذي لم يلد، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه ، وأرضى به ربَّه ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافعُ الشِّكِّ ، وداحض الشِّرك ، وراحض الإفك؛ الذي أسرِيَ به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى ، وعُرج به منه إلى السموات العُلا إلى سدرة المنتهى ﴿١٤ عِندَهَا جَنَّةُ ٱلۡمَأۡوَىٰٓ ١٥ إِذۡ يَغۡشَى ٱلسِّدۡرَةَ مَا يَغۡشَىٰ ١٦ مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ١٧﴾[النجم:17] , صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعلى خليفته الصِّدِّيق السَّابق إلى الإيمان ، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أوَّل مَنْ رفع عن هذا البيت شعار الصُّلبان ،وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القران ،وعلى أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب مزلزل الشِّرك ، ومكسر الأوثان ، وعلى اله ، وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان
3 ـ رضي الله عن المجاهدين: أيها الناس ، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى ، والدَّرجة العُليا لما يسَّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضَّالة من الأمَّة الضَّالة ، وردَّها إلى مقرِّها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مئة عام ، وتطهير هذا البيت الذي أذِنَ اللهأن يُرفع ، وأن يذكر فيه اسمه، وإماطة الشِّرك عن طرقه بعد أن امتدَّ عليها رُواقه ، واستقرَّ فيها رسمه ، ورَفْعِ قواعده بالتوحيد ، فإنه بُني عليه ، وبالتَّقوى فإنه أسِّسَ على التَّقوى من خلفه ومن بين يديه.
4 ـ ماثر المسجد الأقصى: فهو موطن أبيكم إبراهيم ، ومعراج نبيكم محمَّد ، عليه السلام ، وقبلتكم التي كنتم تُصلوُّون إليها من ابتداء الإسلام ، وهو مقرُّ الأنبياء ، ومقصد الأولياء ، ومقرُّ الرُّسل ، ومهبط الوحي ، ومنزل تَنَزُّلِ الأمر والنَّهي ، وهو في أرض المحشر ، وصعيد المنشر ، وهو في الأرض المقدَّسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقرَّبين ، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ، ورسوله ، وكلمته التي ألقاها إلى مريم ، وروحه عيسى؛ الذي شرَّفه الله برسالته ، وكرَّمه بنبوَّته ، ولم يزحزح عن رُتبة عبوديَّته ، فقال تعالى: ﴿لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ﴾ [النساء:172] وقال: ﴿لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ﴾[المائدة:17] وهو أول القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث الحَرمَين ، ولا تُشَدُّ الرِّحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تُعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه.
5 ـ تهنئة صلاح الدين وجنده المسلمين بالنصر: لولا أنكم ممَّن اختاره الله من عباده ، واصطفاه من سُكَّان بلاده؛ لما خصَّكم بهذه الفضيلة؛ التي لا يجاريكم فيها مُجارٍ ، ولا يباريكم في شرفها مُبَارٍ ، فطوبى لكم من جيشٍ ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية ، والوقعات البدريَّة ، والعزمات الصِّدِّيقية ، والفتوح العُمَرِيَّة ، والجيوش العثمانية، والفتكات العَلَويَّة ، جَدَّدتُم للإسلام أيام القادسية ، والوقعات اليرموكية ، والمنازلات الخيبرية ، والهجمات الخالديَّة ، فجزاكم الله عن نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء ، وشكر لكم ما بذلتموه من مُهَجكم في مقارعة الأعداء ، وتقبَّل منكم ما تقرَّبتم إليه من مُهْرَاقِ الدِّماء ، وأثابكم الجنَّة فهي دار السُّعداء.
6 ـ شكر الله على النَّصر: فاقدِروا ـ رحمكم الله ـ هذه النِّعمة حق قدرها ، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها ، فله النِّعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النِّعمة ، وترشيحكم لهذه الخدمة ، فهذا هو الفتح الذي فُتِحَت له أبواب السَّماء ، وتبلَّجت بأنواره وجوه الظَّلماء ، وابتهج به الملائكة المقرَّبون ، وَقَرَّ به عيناً الأنبياء ، والمرسلون ، فماذا عليكم من النِّعمة بأن جعلكم الجيشَ الذي يُفتح عليه البيت المقدَّس في اخر الزمان ، والجُند الذين تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان ، فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء.
7 ـ فضائل الأقصى والقدس: أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ، ونصَّ عليه في خطابه ، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}[الإسراء:1] ـ أليس هو البيت الذي عظمته الملوك ، وأثنت عليه الرُّسل ، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم ، عزَّ وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشَّمس على يوشع لأجله أن تغرب ، وباعد بين خطواتها ليتيسَّرَ فتحه، ويَقْرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه ، فلم يجبه إلا رجلان ، وغضب عليهم لأجله ، فألقاهم في التيه عقوبةً للعصيان؟.
8 ـ شكر الله وحمده: فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل ، وقد فضَّلهم على العالمين ووفَّقكم لما خُذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين ، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شَتَّى ، وأغناكم بما أمضته «كان» و«قد» عن «سوف» و«حتى».
9 ـ الملائكة يشكرون الله للمجاهدين: فليهنكم: أنَّ الله قد ذكركم به فيمن عنده ، وجعلكم جنده ، وشكركم الملائكة المنزَّلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طِيْبِ التوحيد ، ونشر التقديس ، والتَّحميد ، وما أمطُتم عن طُرُقِهم فيه من أذى الشِّرك ، والتثليث ، والاعتقاد الفاجر الخبيث ، فالان يستغفر لكم أملاك السَّموات ، وتُصَلِّي عليكم الصَّلواتِ المباركات.
10 ـ نهيٌ عن الغرور وارتكاب المعاصي: فاحفظوا ـ رحمكم الله ـ هذه الموهبة فيكم ، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله؛ التي من تمسَّك بها سَلِمَ ، ومن اعتصم بعُروتها نجا ، وعُصِم ، واحذروا من اتِّباع الهوى ، وموافقة الرَّدى ، ورجوع القهقرى ، والنكول عن العِدى ، وخذوا في انتهاز الفرصة ، وإزالة ما بقي من الغُصَّة ، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده ، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه؛ إذ جعلكم من عباده.
11 ـ وما النصر إلا من عند الله: وإيَّاكم أن يستزلَّكم الشيطان ، وأن يتداخلكم الطُّغيان ، فيخيَّل لكم: أنَّ هذا النصر بسيوفكم الحداد ، وبخيولكم الجياد ، وبجلادكم في مواطن الجِلاد ، لا والله! ﴿وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ١٠﴾ [الأنفال:10].
12 ـ البعد عن المعاصي: واحذروا عباد الله ـ بعد أن شَرَّفكم بهذا الفتح الجليل ، والمنح الجزيل ، وخصَّكم بهذا الفتح المبين ، وأعلق أيديكم بحبله المتين ـ أن تقترفوا كبيراً من مناهيه ، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه ، فتكونوا كالَّتي نقضت غزلها من بعد قوَّةٍ أنكاثاً وأو كالذي اتيناه اياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان ، فكان من الغاوين.
13 ـ دعوة للاستمرار في الجهاد: والجهاد هو من أفضل عباداتكم ، وأشرف عاداتكم ، انصروا الله ينصركم ، وأذكروا الله يذكركم ، اشكروا الله يزدكم ، ويشكركم ، جُدُّوا في حسم الدَّاء ، وقطع شأفة الأعداء ، وتطهير بقيَّة الأرض؛ التي أغضبت الله ورسوله ، واقطعوا فروع الكفر ، واجتثُّوا أُصوله ، فقد نادت الأيام بالثَّارات الإسلاميَّة ، والملَّة المحمَّدية ، الله أكبر فتح الله ، ونصر ، غلب الله ، وقهر ، أذل الله مَنْ كفر.
14 ـ دعوة لتحرير ما تبقى من الأرض المقدَّسة: واعلموا ـ رحمكم الله ـ: أنَّ هذه فُرصةٌ؛ فانتهزوها ، وفريسةٌ؛ فناجزوها، ومهمَّة؛ فأخرجوا لها هِمَمكم ، وَبَرِّزُوها ، وسيِّروا إليها سرايا عزماتكم ، وجهِّزوهَا ، فالأمور بأواخرها ، والمكاسب بذخائرها ، فقد أظفركم الله بهذا العدوِّ المخذول ، وهم مثلكم ، أو يزيدون ، فكيف وقد أضحى في قُبالة الواحد منكم عشرون ، وقد قال الله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمۡ عِشۡرُونَ صَٰبِرُونَ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ﴾ [الأنفال:65]. أعاننا الله وإياكم على اتِّباع أوامره ، والانزجار بزواجره ، وأيدنا معشر المسلمين بنصرٍ من عنده ﴿إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ﴾ [آل عمران:160] .
15 ـ أدعية للسلطان صلاح الدين ، وللمسلمين في دينهم ودنياهم: وتمام الخطبة الثانية قريب مما جرت به العادة، وقال بعد الدُّعاء للخليفة: اللَّهم وأدم سُلطان عبدك ، الخاضع لهيبتك ، الشاكر لنعمتك ، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع ، وشهابك اللامع ، والمحامي عن دينك المُدافع ، والذابِّ عن حرمك الممانع ، السَّيد الأجل ، الملك الناصر ، جامع كلمة الإيمان ، وقامع عبدة الصُّلبان صلاح الدنيا ، والدين ، سلطان الإسلام ، والمسلمين ، مطهِّرِ البيت المقدَّس أبي المظفر يوسف بن أيوب ، محيي دولة أمير المؤمنين.
ـ اللهم عُمَّ بدولته البسيطة ، واجعل ملائكتك براياته محيطة ، وأحسن عن الدِّين الحنيفيِّ جزاءه ، واشكر عن المِلَّة المحمَّدية عزمه ، ومضاءه.
ـ اللهم أَبقِ للإسلامُ مُهجته ، ووقِّ للإيمان حَوْزته ، وانشر في المشارق ، والمغارب دعوته.
ـ اللهم كما فتحت على يده البيت المقدس بعد أن ظُنَّت الظُّنون ، وابتُلي المؤمنون ، فافتح على يده أداني الأرض، وأقاصيها ، وملِّكه صياصي الكفرة ، ونواصيها ، فلا تلقاه منهم كتيبةٌ إلا مَزَّقها ، ولا جماعة إلا فرَّقها ، ولا طائفةٌ بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها.
ـ اللهم اشكر عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ، ونهيه ، اللهم وأصلح به أوساط البلاد ، وأطرافها ، وأرجاء الممالك ، وأكنافها.
ـ اللّهم ذلِّل به معاطس الكفار ، وأَرغم به أنوف الفُجَّار ، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سُبل الأقطار.
ـ اللهم ثبت الملك فيه ، وفي عقبه إلى يوم الدين ، واحفظه في بنيه ، وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم ، واقض بإعزاز أوليائه ، وأوليائهم.
ـ اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة؛ التي تبقى على الأيام ، وتتخلَّد على مَرِّ الشهور والأعوام فارزقه الملك الأبديَّ الذي لا ينفد في دار المتقين ، وأجب دُعاءه في قوله: ﴿رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ 
أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِي بِرَحۡمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّٰلِحِينَ ١٩﴾ [النمل:19] . ثم دعا ، بما جرت به العادة وبعد الصَّلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن عليُّ بن نجا المصريُّ على كرسي الوعظ بإذن السُّلطان ، فوعظ الناس ، وكان وقتاً مشهوداً ، وحالاً محموداً ، فلله الحمد ، والمنَّةُ. واستمر القاضي محي الدين بن الزَّكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات ، ثم قرَّر السلطان للقدس خطيباً مستقراً ، وأرسل إلى حلب ، فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين محمود قد اشتغله لبيت المقدس ، وقد كان يُؤمِّل أن يكون فتحه على يديه ، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه بعد وفاته.
منبر نور الدين في بيت المقدس:
وكان الملك العادل نور الدين محمود زنكي ـ رحمه الله ـ في عهده قد عَرفَ بنور فراسته فتح البيت المقدَّس من بعده ، فأمر في حلب باتخاذ منبرٍ للقدس ، تَعِبَ النَّجارون ، والصُّنَّاع ، والمهندسون فيه سنين ، وأبدعوا في تركيبه الإحكام ، والتَّزيين ، وأنفق في إبداع محاسنه ، وإبداء مزاينه أُلوفاً ، وكان لتردديد النَّظر فيه على الأيام أَلُوفاً ، وبقي ذلك المنبر بجامع حلب منصوباً ، سيفاً في صِوان الحِفظ مقروباً ، حتى أمر السُّلطان في هذا الوقت بالوفاء بالنَّذر النُّوريِّ ، ونَقْلِ المنبر إلى موضعه القُدْسيِّ ، فَعُرفت بذلك كرامات نور الدين؛ التي أشرق نورُها بعده سنين، وكان من المحسنين؛ الذي قال الله فيهم: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ١٣٤ ﴾  [آل عمران:134] .
وفي رواية للعماد الأصفاني: ولم يزل لنور الدين في قلبه من الدِّين نور ، وأثر تقواه للمتقين مأثور ، أزهد العبَّاد ، وأعبد الزُّهاد ، ومن الأولياء الأبرار ، والأتقياء الأخيار ، وقد نظر بنور الفراسة: أن الفتح قريبٌ ، وأنَّ الله لدعائه ـ ولو بعد وفاته ـ مجيب ، ويزيد قو ة عزمه جِدَّاً ، ويَمدُّه بالحياة الربانية مدَّاً ، قد طهَّره الله من العَيْب ، وأطلعه على سِرِّ الغيب، ونز هه من الرَّيب لنقاء الجيب ، وشملت الإسلام بعده بركته ، خُتمت بافتتحاح مُلك صلاح الدين مملكته، وهو الذي رَبَّاه ، ولَبَّاه ، وأحبَّه ، وحباه ، وهو الذي سنَّ الفتح ، وسنَّى النُّجح ، واتفق أنَّ جامع حلب في الأيام النُّورية احترق ، فاحتيج إلى منبرٍ يُنصب فَنُصِب ذلك المنبر ، وحسن المنظر ، وتولى حينئذ النجار عمل المحارب على الرَّقم ، وشابه المحراب المنبر في الرَّسم ، ومن رأى حلب الان شاهد منه على مثال المنبر القُدْسيِّ الإحسان ، ولما فتح السُّلطان القدس؛ تقدَّم بحمله ، وصَحَّ به في محراب الأقصى اجتماعُ شَمْلِهِ ، وظهر سرُّ الكرامة في فوز الإسلام بالسَّلامة، وتناصرت الألسن بالدُّعاء لنور الدين بالرَّحمة ، ولصلاح الدين بالنُّصْرَة ، والنِّعمة.
ويدل هذا العمل على مدى إخلاص صلاح الدين لنور الدين محمود زنكي؛ الَّذي بذل الكثير لتحقيق الوحدة الإسلاميـة ، تمهيداً لاقتلاع الوجـود الصَّليبي في بلاد الشـام ، كما أن ذلك يدلُّ على أنَّ صلاح الدين عندما قضى على دولة الزنكيين ـ التي سادها الضَّعف ، والوهن عقب وفاة نور الدين محمـود ، وتولَّى ابنه الصغير الملك الصالح إسماعيل ـ لم يكن يقصد بذلك سوى مواصلة المسيرة ، والاستعداد للجهاد ضدَّ الصليبيين؛ لإزالتهم، واسترداد بيت المقدس.

 

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022