الحكم الإلهية من خلق السماء والأرض
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليهم السلام)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (28)
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)﴾ [ص: 27 - 29]:
وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض، وفي الحكم بين الناس، وقبل أن تمضي قصة داوود إلى نهايتها في السياق يرد هذا الحق إلى أصله الكبير، أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما. أصله العريق في كيان هذا الكون كله، وهو أشمل من خلافة الأرض، ومن الحكم بين الناس، وهو أكبر من هذه الأرض كما أنه أبعد مدى عن الحياة الدنيا؛ إذ يتناول صميم الكون، كما يتناول الحياة الآخرة، ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير. وهكذا: في هذه الآيات الثلاثة، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها.
إنّ خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلاً، ولم يقم على الباطل، وإنما كان حقاً، وقام على الحق، ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق:
- الحق في خلافة الأرض.
- والحق في الحكم بين الخلق.
- والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم.
فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار. والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة، التي لا يتصورها الكافرون؛ لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يذكرون من أصالة الحق شيئاً ﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾.
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون، وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس، وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكم بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي، لا ينتظم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف. وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض، وهو أمر عظيم إذن وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق. فما يمكن أن يصمد ظالم باغٍ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود. ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة، وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب.
مراجع الحلقة:
- الأنبياء الملوك، علي محمد محمد الصلابي، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 150-152.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، ص (5/2019).