قواعد الحكم في خطاب الله تعالى لداوود (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم د. علي محمد الصلابي
الحلقة (26)
خاطب الله تعالى داوود (عليه السلام) بأن جعله حاكماً بين الناس في الأرض، فله الحكم والسلطة، وعليهم السمع والطاعة، ثم بيّن الله تعالى له قواعد الحكم تعليماً لغيره من الناس:
أ- ﴿فاحْكم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ﴾؛ أي: فاقض بين الناس بالعدل، الذي قامت به السماوات والأرض. وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
ب- ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ﴾ أي: لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله.
ويلاحظ في قوله تعالى لنبيه (عليه السلام): ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ﴾ ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: أن النهي انصب على اتباع الهوى وليس على وجوده في النفس، وهذا يشعر بأن المطلوب من المسلم مخالفة هوى النفس، وليس المطلوب منه محو الهوى، وإزالته من النفس، فإنَّ هذا قد يكون من قبيل تكليف ما لا يطاق، وتكليف ما لا يطاق ممنوع وغير وارد في الشرع.
الملاحظة الثانية: أن النهي عن اتباع الهوى جاء مطلقاً عن تقييد الهوى بكونه مخالفاً للشرع، وهذا يعني أن الغالب في هوى النفس مخالفته للشرع، فيكون إطلاق الهوى والنهي عن اتباعه يعني النهي عن هوى النفس المخالف للشرع.
والدليل على الملاحظتين المذكورتين أن آيات الكتاب العزيز المتعلقة بالهوى أنها جاءت تنهى عن اتباعه وليس عن وجوده، كما أنها نهت عن الهوى مطلقاً دون تقييده بكونه مخالفاً للشرع، وذلك لغلبة مخالفته للشرع، وبالتالي ذمَّه وحرّم اتباعه، فإطلاقه يعني أن المراد به هو الهوى المخالف للشرع، وهو المطلوب عدم اتباعه. ومن هذه الآيات التي تنهى عن اتباع الهوى لا عن وجوده ودون تقييده بالمخالفة للشرع، وذم من يتبع هوى نفسه، أو هوى غيره، الآيات الآتية:
- ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا﴾ [النساء: 135].
- ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ [النازعات: 40 - 41].
- ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
- ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: 77].
- ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ [البقرة: 120].
- ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [المائدة: 49].
إنما اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: 26].
أي إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق، وعاقبته الخذلان، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾.
أي إنّ الذين يتنكبون طريق الحق والعدل، لهم عقاب شديد يوم القيامة والحساب الأخروي، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعَّد الله مَن ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد.
إن الآية الكريمة تبيّن أن الحكم بين الناس، مرتبة دينية، تولاها رسل الله، وخواص خلقه، وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق، ومجانبة الهوى، فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية، والعلم بصورة القضية المحكوم بها، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم، ولا يحل له الإقدام عليه، وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى، ويجعله منه على بال، فإن النفوس لا تخلو منه؛ بل يجاهد نفسه، بأن يكون الحق مقصوده.
ولا شك أن إخبار الآيات بالخطاب الذي وجهه الحق إلى داوود (عليه السلام)، وأمره فيه أمراً لازماً صريحاً بأن المؤدي إلى الجور والظلم، لا شك أنه موجه في الحقيقة إلى جميع القضاة والحكام، وما أخبر الله به إلا ليعتبر أمثالهم فهم محتاجون إليه أكثر من نبي الله داوود الذي أكرمه الله بعصمة النبوة من الزلل والخطأ، ولا ضمانه للقضاة والحكام من الجور والظلم، إلا إنْ التزموا بأحكام دين الله وشريعته المستمدة من الكتاب المنزل على خاتم أنبيائه ورسله، مع الشعور برقابة الله عليهم، ومسؤوليتهم عن أعمالهم يوم الحساب والجزاء، فهذا الخبر ضمانة لإقامة العدل، وعدم الجور والظلم ؛ ولهذا قاله تعالى في تعقيبه الثاني على قصة ابتلاء داوود (عليه السلام) ليقرر هذه الحقيقة ويؤكدها.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 144-148.