الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

استخلاف الله تعالى لداوود (عليه السلام): خصائص الاستخلاف ومقاصده

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (25)

 

قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26]:

والغرض من هذا الاستخلاف الخاص أن يقضي بين الناس بالعدل، ويحكم بينهم بالحق، ولا يتبع الهوى في قضائه، وحكمه بل يتريَّث ويتثبت، ولا يستعجل في إصدار الحكم قبيل السماع من الخصوم جميعاً، ولا يتعجل فيأخذ بظاهر قول واحد قبل أن يمنح الخصم فرصة للإدلاء بحجته، فقد يتغير وجه المسألة كله أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خداعاً أو كذباً مشوّهاً.

وإن الخلافة المقصودة هنا هي الخلافة بالمعنى الخاص، وليس بالمعنى العام الذي تحقق لآدم وذريته في الأرض. إنه خليفة بالمعنى الشرعي المتمثل في إيجاد نظام حكم على هدي الشرع، والحكم بين الناس بأحكام شريعته، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾. ولكن لماذا التركيز على تحكيم الشرع بين الناس في جميع شؤون حياتهم الخاصة والعامة؟

إنّ شريعة الله تعالى للناس طرف من سننه في خلق الكون، وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه نظام السنن، وإن العدل في الحكم وفي تسيير شؤون الحياة قاطبة الذي يطالب به الخلفاء في الأرض، والحكام بين الناس ؛ إنما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف، وإن الانحراف في الحكم إنما هو انحراف عن نظام السنن الذي قامت عليه السماء والأرض، وهو أمر عظيم إذن وشر كبير، ينتج عنه مشكلات وأزمات لا حصر لها في حياة الناس، هي في النهاية تعيق عجلة التقدم والارتقاء بالحياة إلى الكمال المقدر لها على سطح هذه الأرض، بل إن الانحراف عن منهج الله الذي ارتضاه للعالمين ، والاستخلاف الخاص؛ هو آلية تطبيقية يؤدي في النهاية إلى اصطدام الظالمين الطغاة مع سنن الله والفطرة الإنسانية، فيتحطم كيانهم ويتلاشى وجودهم. وبما أن الخلافة بالمعنى الشرعي لا بد لها من شروط وأدوات حتى تحقق الأهداف المنوطة بها، فإن الله تعالى زوّد داوود (عليه السلام) بالصفات والوسائل التي تساعده على القيام بأعباء الاستخلاف.

- فآتاه الملك: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾.

- وآتاه العلم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾.

- وآتاه الحكمة: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾.

- وآتاه الفضل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾.

- وآتاه الزبور: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾.

- وألان له الحديد: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾.

وإن من الملاحظ أن الآيات الكريمة قد حرصت على التعبير عن الإنعام على داوود بصفات العلم والحكم، وإغداق المنح الإلهية عليه من الفضل، وإعطائه الملك المتمكن، والقدرة على فتل الحديد بيده مثل الخيوط، وتكريمه بالنبوة؛ وذلك باستعمال فعل (آتى) خمس مرات، وآتى في اللغة معناه أعطى، وعطاء الله عز وجل مطلق متدفق غير محظور: ﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورً﴾ [الإسراء: 20].

لكن لماذا داوود (عليه السلام) أول نبي خليفة بالمعنى الشرعي؟ ذلك لأنه أول نبي رسول يجمع بين النبوة والملك، فالأنبياء قبله لم يكن أحد منهم ملكا، ولم يحكم أحد منهم قومه بالمعنى الخاص للحكم، ولم ينشأ أحد منهم دولة مدنية منظمة. وينطبق هذا المعنى على نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل –صلوات الله وسلامه عليهم- بل ينطبق على موسى، وهارون عليهما السلام، ولهذا فإن داوود (عليه السلام) هو مؤسس (المملكة الإسلامية الإيمانية)، ولعله أول خليفة مسلم في التاريخ بالمعنى الشرعي الخاص، أي: أول خليفة بنى دولة، وأنشأ مملكة، وأوجد نظام الخلافة على أساس شرعي.

 

مراجع الحلقة:

- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 142-144.

- صلاح الخالدي، القصص القرآني، (3/409-408).

- سيد قطب، في ظلال القرآن (5/3019-3018).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022