الثلاثاء

1446-11-01

|

2025-4-29

الجبال في منهج القرآن الكريم

الحلقة الثامنة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441ه/يناير 2020م

جاء حديث القرآن عن الجبال على وجوه كثيرة:
أ ـ شاهد على تعنت الفئة الكافرة التي رفضت عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد، وشاهد على دعوة نوح عليه السلام، قال تعالى:" رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا" (نوح، آية : 26 ـ 27).
واستجاب الله دعاءه فأرسل عليهم الطوفان الذي أغرق الأخضر واليابس، والذي طهر الأرض من الشرك والكفر وحطم الأصنام وأغرق البهتان واكتسح الكفر وأهله، قال تعالى:" وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ" (هود، آية : 42 ـ 43).
ب ـ شاهد على مهارة قوم صالح في النحت والصناعة، وشاهد على تعنتهم وعصيانهم قال تعالى:" وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ" (الحجر، آية : 82 ـ 83).
إنها صيحة الإيمان، صيحة التوحيد، إنها صيحة القوة اقتلعت الشرك وطوحت بالأصنام وأبادت البهتان وخسفت بالكفر وأهله.
قال تعالى:" فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ" (هود، آية : 66 ـ 67).

ج ـ شاهد على تكليم الله لموسى عليه السلام قال تعالى:" وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا" (النساء، آية : 164)، وشاهد على ضعفه وانهياره أمام تجلي ربه، قال تعالى:" وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا" (الأعراف، آية : 143).
ساحت نتوءات الجبل فبدأ موسى بالأرض مدكوكاً وأدركت موسى رهبة الموقف وسرت في كيانه البشري الضعيف.
" وَخَرَّ موسَى صَعِقًا" مغشياً عليه غائباً عن الوعي " فَلَمَّا أَفَاقَ" وثاب إلى نفسه وأدرك مدى طاقته واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله " قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ" تنزهت، وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك في حال الدنيا.
س ـ شاهد على قدرة الله تعالى في إحياء الموتى وجمع الذرات المتناثرة في أركان الأرض قال تعالى:" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (البقرة، آية : 260).
ش ـ شاهد على أن الله رفعه وجعله ظلة على بني إسرائيل عند أخذ الميثاق عليهم، قال تعالى:" وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأعراف، آية : 171).
جعل الجبل فوقهم مثل الظلة وقيل لهم خذوا التوراة وعليكم الميثاق ألا تضيعوها وإلا سقط عليكم الجبل فسجدوا لله وأخذوا التوراة بالميثاق وهو ميثاق لا ينسى، فقد أخذ في ظرف لا ينسى، أخذ وقد نتق الله الجبل فوقهم وظنوا أنه واقع بهم، أعطوا الميثاق في ظل معجزة خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصمهم بعد ذلك من الانتكاس، وقد أمروا في تلك الخارقة أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدية، وأن يستمسكوا به في شدة وصرامة، ولكن اليهود نقضوا الميثاق وارتكبوا المعاصي واعتدوا على حدود الله حتى استحقوا غضب الله ولعنته، قال تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" (المائدة ، آية : 78 ـ 79).
ص ـ شاهد على المكر والخديعة، والانفلات من قيود الشريعة وتهاون البشرية في تعاليم الدين، قال تعالى: " وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" (إبراهيم ، آية : 46).
والمراد بالجبال في هذا الموضوع قولان:
أحدهما: الجبال المعروفة كما قال الجمهور.
الثاني: أنها ضربت مثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وثبوت دينه كثبوت الجبال الراسيات، والمعنى لو بلغ كيدهم إلى إزالة الجبل لما استطاعوا إزالة دين الإسلام.
ض ـ شاهد على احتضان النحل لتأخذ من كهوفه لأوبها وموضعاً لعسلها وكنا لتناسلها، قال تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ" (النحل ، آية : 68 ـ 69).
ر ـ شاهد على أنه كان كناً يحفظ من يأوي إليه من المطر والريح وغير ذلك، قال تعالى: " وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا" (النحل ، آية : 81).
أكناناً للخلق يأوون إليها ويحتصنون بها ويعتزلون عن الخلق فيها، وفي الصحيح أنه ـ عليه السلام ـ كان في أول مرة يتعبد بغار حراء ويمكث فيه الليالي، وفي صحيح البخاري: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً هارباً من قومه فاراً بدينه مع صاحبه أبي بكر حتى لحقا بغار في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال، قال تعالى: "إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (التوبة ، آية : 40).
ز ـ تسبيح الجبال لخالقها الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، قال تعالى: "وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء ، آية : 79).
وقوله تعالى: "إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ" (ص ، آية : 18).
وقوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي" (سبأ ، آية : 10).
وهذه الدرجة من الإشراف والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله يزيح عنه حجاب كيانه المادي ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي بها بهذا فيرى ما لم يكن يرى، وسمع ما لا يسمع، ويحس ما لا يحس أو يشعر به.
فسمع تسبيح الجبال والطير وتجاوب السهول الوديان، والأمواج والبحار، والظل والشجر والنور والظلمة، والشمس والقمر، وكل حصاة وكل حجر وكل حبة وكل ورقة وكل زهرة وكل ثمر، وكل نبتة وكل غصن وكل حشرة وكل زاحفة وكل حيوان، وكل إنسان. وصدق الله العظيم في قوله: "تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ" (الإسراء ، آية : 44).
ع ـ موقف الجبال من الأدعياء أدعياء الشرك وتعدد الألوهية عندما تجرأوا ووصفوا الله تعالى بما لا يصح أن يوصف به فقال تعالى: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا" (مريم ، آية : 88 ـ 91).
فكانت هذه الغضبة الكونية التي اشتركت فيها السماوات والأرض والجبال حتى تحولت إلى زلزال كبير مدمر بمجرد سماعهم لهذه الكلمة: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا" ، وكأن الكون كله قد تحول إلى أفواه مزمجرة تقول لهؤلاء المشركين: " لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا".
لقد اهتز كل ساكن وارتج كل مستقر وغضب كل ما هو داخل في هذا الكون غضباً شديداً لبارئه وخالقه، لأن هذه الكلمة صدمت كيانه وفطرته وخالفت ما وقر في ضميره وعقله، وما استقر في كيانه وحسه وهز القاعدة التي قام عليها الوجود واطمأن إليها، قال تعالى: "أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا" (مريم ، آية : 91 ـ 92).
وفي وسط هذه الثورة العارمة يدوي في جنبات الكون اللانهائي آيات بينات تنزيل من حكيم حميد.
قال تعالى: "إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا" (مريم ، آية : 93 ـ 95).
ك ـ حالة الجبال يوم القيامة وكيف أن بعضها يسير إلى حيث يريد لها خالقها، قال تعالى: "وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا" (الكهف ، آية : 47).
إنه مشهد تشترك فيه الطبيعة ويرتسم الهول فيه على صفحاتها وعلى صفحات القلوب، مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير، فكيف بالقلوب، وتتبدى فيه الأرض عارية، وتبرز فيه صفحاتها مكشوفة لا نجاد فيها ولا خافية.
قال تعالى: "يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ" (الحاقة : آية : 18).
وبعض الجبال ينسف نسفاً فيتطاير شظايا وذرات، قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا" (طه ، آية : 105 ـ 107)، الجبال الراسية قد نسفت نسفاً، وتحطمت بعد أن كانت حصوناً وتساوت بالأرض بعد أن كانت تطاول السماء وبعضها يبث كما يبث الدقيق فيكون ذرات صغيرة متطايرة، قال تعالى: "وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا" (الواقعة ، آية : 5 ـ 6).
إنه الهول الكبير، الذي لا يبقي ولا يذر، إنها الواقعة الكبرى التي تبدل الأرض غير الأرض، والسماوات وغير السماوات، والناس أين هم؟
قال تعالى: " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ" (عبس ، آية : 34 ـ 37).

المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم

* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (169:162).

*سليمان بن صالح القرعاوي، التفسير العلمي المعاصر، صفحة 121، 123.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022