"ظلمات في بحر لجي" إشارة علمية في القرآن الكريم
الحلقة الحادية والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441ه/فبراير 2020م
قال تعالى: "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور ، آية : 40).
هذا المثل لأعمال الكفار في أنها عملت على خطأ وفساد وضلال وحيرة وعلى غير هدى، فهي في ذلك كمثل ظلمات في بحر عميق جداً كثير الماء، وفوق هذا الموج موج آخر، وفوقها سحاب متراكم، فاجتمعت عدة ظلمات، وهكذا عمل الكافر ظلمات في ظلمات.
فهذا المثل يصور الحالة النفسية والفكرية والقلبية للذين كفروا بعد أن تركوا نور الهداية الربانية، إنهم يطلبون سعادتهم في الظلمات، فقلوبهم مظلمة بالكفر، ونفوسهم تائهة في بحر ظلمات الأهواء والشهوات، وأفكارهم تسبح في ظلمات أسباب لذات الدنيا، وإرادتهم تحت كل هذه الظلمات، فمثلهم كمن في ظلمات قاع بحر عميق فوقه أمواج في عمق الظلمة، فوقها أمواج في السطح تضاعف الظلمة، فوقها سحاب يزيد الظلام ظلاماً، ظلمات بعضها فوق بعض.
إن مثل الظلمات في سورة النور دل على حقائق علمية تتصل بالعلوم الدنيوية المادية التطبيقية أو النظرية، فقد أثبت القرآن الكريم وجود ظلمات في البحر العميق، وقيد وصف البحر بلفظ "لُجِّي" ليعلم قارئ القرآن الكريم أن هذه الظلمات لا تكون إلا في بحر لجي أي عميق " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ"، ويخرج بهذا القيد البحر السطحي الذي لا توجد فيه هذه الظلمات، وهذه الظلمات تتكون بسبب العمق في البحر اللجي، وهي ظلمات الأعماق.
فالبحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب عمورة الماء، وذكر القرآن الكريم: أن للبحر العميق موج يغشاه من أعلاه قال تعالى: " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ".
وذكرت الآية وجود موج آخر فوق الموج الأول، قال تعالى: " يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ"، وهذه صفة للبحر وهي: وجود موجين في وقت واحد أحدهما فوق الآخر، وليس أمواجاً متتابعة على مكان واحد بل هي موجودة في وقت واحد، والموج الثاني فوق الموج الأول، وتشير الآية إلى أن فوقية الموج الثاني على الموج الأول كفوقية السحاب على الموج الثاني، قال تعالى: " يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ" (النور ، آية : 40).
واشتملت الآية على ذكر ظلمات الأعماق السبعة في أولها وهي سبع ظلمات بعضها فوق بعض تنشأ من التلاشي التدريجي لألوان الطيف السبعة، وظلمات الحوائل الثلاثة: السحب، الموج السطحي، والموج الداخلي " أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ".
وذكرت الآية أن هذه الظلمات التي سبق ذكرها بسبب الأعماق أو الحوائل بعضها فوق بعض، واستعمل القرآن لفظ ظلمات الذي تستعمله العرب للدلالة على جمع القلة، من الثلاثة إلى العشرة، فقبلها تقول ظلمة وظلمات، وبعدها تقول إحدى عشرة ظلمة، ومن ثلاث إلى عشر تقول ظلمات كما هي في الآية، وهذا ما كشفه العلم كما بين العلماء: سبع ظلمات للألوان متعلقة بالأعماق وثلاث ظلمات متعلقة بالحوائل "الموج الداخلي، والموج السطحي والسحاب.
وبينت الآية التدرج في اشتداد الظلام في البحار العميقة باستعمال فعل من أفعال المقاربة وهو (كاد) وجعلته منفياً. قال تعالى: "ِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا".
فدل هذا الاستعمال الدقيق على معنيين:
الأول: أن الذي يخرج يده في هذه الأعماق ليراها لا يراها البتة، لأن فعل المقاربة كاد جاء منفياً، فإذا نفيت مقاربة الرؤية دلت على تمام نفي الرؤية، وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، أمثال الزجاج وأبو عبيد والفراء والنيسابوري. والآية استعملت تعبيراً يدل على المعنيين معاً فتكون الرؤية بصعوبة في الأعماق البعيدة، على عمق (1000) متر تقريباً فتأمل كيف جاء التعبير القرآني الموجز دالاً على المعاني الصحيحة المتعددة.
وحين عُرضت هذه الحقائق على البروفسور "راو"، وسئل عن تفسيره لظاهرة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة وكيف أخبر محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائق منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام أجاب: من الصعب أن نفترض أن هذا النوع من المعرفة العلمية كان موجوداً في ذلك الوقت منذ ألف وأربعمائة عام، ولكن بعض الأشياء تتناول فكرة عامة، ولكن وصف هذه الأشياء بتفصيل كبير أمر صعب جداً، ولذلك فمن المؤكد أن هذا ليس علماً بشرياً بسيطاً لا يستطع الإنسان العادي أن يشرح هذه الظواهر بذلك القدر من التفصيل، ولذلك فكرت في قوة خارقة للطبيعة خارج الإنسان، لقد جاءت المعلومات منن مصدر خارق للطبيعة.
إنه لدليل قاطع على أن هذا العلم الذي حملته هذه الآية قد أنزله الله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، كما قال تعالى: " قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الفرقان ، آية : 6).
كما قال تعالى: (لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا" (النساء ، آية : 166)
المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (180:177).
* عبدالمجيد الزنداني، بينات الرسول ومعجزاته، صفحة 120، 121.