السبت

1446-12-11

|

2025-6-7

من آيات الإعجاز العلمي في خلق الكون والشمس والقمر والنجوم والسموات (2)

الحلقة الرابعة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة لخص لنا ربنا عز وجل في صياغة كلية شاملة عملية خلق السماوات والأرض وإفنائهما وإعادة خلقهما من جديد في خمس آيات من القرآن الكريم على النحو التالي:
أ ـ قال تعالى:" وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" (الذاريات، آية : 47).
معاني الآية الكريمة:" وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ": أي: خلقناها وأتقناها وجعلناها سقفاً للأرض وما عليها.
"بِأَيْدٍ أي: بقوة وقدرة عظيمة.
"وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ": لأرجائها وأنحائها، وإنا لموسعون أيضاً على عبادنا بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامة القفار ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي إلا وأوصل إليها من الرزق ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها، فسبحان من عمّ بجوده جميع المخلوقات وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات.
ب ـ قال تعالى:" أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء، آية : 30).
ومن التفاسير لهذه الآية :" أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا" أي: الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به سواه؟ ألم يروا " أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا" أي: كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السماوات سبعاً والأرض سبعاً، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ولهذا قال" وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء:
ففي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
" كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا" قيل: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سماوات وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين، وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء.
إن دراسات علماء الفلك والكون تؤكد أن الكون كان كتلة متماسكة حارّة ثم بدأ بانفجار مدو عظيم أدى إلى إنفصال الكتلة الملتحمة وتفرقت أجزاؤها في أنحاء الفضاء وكانت درجة الحرارة عالية جداً ثم تبردت وانخفضت، هذا ما توصل إليه العلماء بعد دراسات حثيثة ومضنية.
ج ـ قال تعالى:" ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَال َلَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فصلت، آية : 11).
ومن تفسير هذه الآية " ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ" وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض "فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا" أي: استجيبا لأمري وافعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين "قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" أي: ليس لنا إرادة تخالف إرادتك.
د ـ وقال تعالى:" يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ" (الأنبياء، آية : 104).
أي: يخبر الله تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات على عظمها واتساعها كما يطوي الكاتب السجل، أي الورقة المكتوب فيها، فتنتشر نجومها، وتكور شمسها وقمرها، وتزول عن أماكنها.
س ـ قال تعالى:" يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ"(إبراهيم، آية : 48). أي: تبدل غير السماوات، وهذا التبديل، تبديل صفات لا تبديل ذات فإن الأرض يوم القيامة تسوى وتمد كمد الأديم ويلقى ما على ظهرها من جبل ومعلم، فتصير قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، وتكون السماء كالمهل من شدة أهوال ذلك اليوم، ثم يطويها الله تعالى بيمينه.
" وَبَرَزُواْ" أي: الخلائق من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم في محل لا يخفى منهم على الله شيء " للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" أي: المنفرد بعظمته وأسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة وقهره لكل العوالم، فكلها تحت تصرفه وتدبيره، فلا يتحرك منها متحرك، ولا يسكن ساكن إلا بإذنه.
إن الآيات الخمسة السابقة تشير إلى أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار، وأننا إذا عدنا بهذا الاتساع إلى الوراء مع الزمن فلابد أن يتكدس على هيئة جرم واحد "مرحلة الرتق" وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله، "مرحلة الفتق" فتحول إلى سحابة من الدخان "مرحلة الدخان"، خلقت منه الأرض والسموات "مرحلة الإتيان"، وأن الكون منذ لحظة انفجاره ظل في توسع مستمر وأن هذا التوسع سوف يتوقف في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، بأمر منه تعالى، فيبدأ الكون في الانطواء على ذاته، والتكدس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول الذي بدأ منه خلق السموات والارض، فتتكرر عملية الانفجار والتحول إلى دخان الذي تخلق منه أرض غير أرضنا الحالية، وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا، وهنا تبدأ رحلة الحياة الدنيا وتبدأ رحلة الآخرة.
ومراحل الرتق، والفتق، والدخان، والإتيان، بالسموات والارض، وتوسع السماء، ثم طيها تعطينا كليات مراحل الخلق والإفناء والبعث دون الدخول في التفاصيل وهذه الحقائق القرآنية لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية كلها بأكثر من أربعة عشر قرناً، وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لا يمكن أن يكون إلا كلام الله الخالق، كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين، بأنه كان موصولاً بالوحي، ومعلماً من قبل خالق السماوات والأرض حيث إنه لم يكن لأحد من الخلق علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي، ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله وشمولها وكمالها، وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعاني يتناسب مع المستوى العلمي للعصر، وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله.

المصادر والمراجع:
* القرآن الكريم
* علي محمد محمد الصلابي: المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، صفحة (30:26).
* عبدالرحمن بن ناصر السعدي التميمي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، دار السلام، الرياض، صفحة (488,882,965).
* زغلول النجار: من آيات الإعجاز العلمي السماء في القرآن الكريم، صفحة (84,83).

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022